فهرس المحتويات

الخميس، 8 فبراير 2024

المنظور الحقيقي للدين في العلمانية.. رد على التعصب الضدديني

  المنظور الحقيقي للدين في العلمانية.. رد على التعصب الضدديني

رسلان عامر

 

 

 

1- مقدمة: 1

2- الدين والعلمانية بين الإسلاميين والضددينينن: 2

3- ما هي العلمانية؟. 3

4- العلمانية والإلحاد: 4

5- العلمانية والعقل: 5

6- العلمانية والإنسان: 5

7- العلمانية هي: 6

8- العلمانية والدين: 6

8.1- الدين كمنتج بشري: 6

8.2- الدين كمنتج تاريخي واقعي: 7

8.3- تطور المجتمع وتطور الدين: 8

8.4- العلمانية وحق حرية الضمير: 10

9-رد على الضددينيين: 11

11- خطر الدعاية الضددينيية: 13

12-خاتمة: 14

 

1- مقدمة:

عند قراءة مثل هذا العنوان، فأول ما قد يتبادر إلى الذهن هو السؤال عن أهمية الحديث حول هذه المسألة، التي يمكن أن تبدو على أرضية الواقع الراهن عربيا وسوريا مسألة هامشية.

في الواقع تأتي أهمية طرح هذه المسألة من الواقع المباشر نفسه، فعلى أرضية هذا الواقع نجد أن الأهداف التي قامت من أجلها ثورات الربيع العربي لم تتحق بعد، بل وليست فعليا حتى قريبة التحقيق.

وهذا يعني أننا ما نزال في مرحلة السعي إلى الحل، ولكنه يعني بنفس الوقت ضرورة المراجعة المستمرة لصيغة الحل التي نعتمدها، وعندما ننظر بواقعية ودقة إلى واقع الحال، فسنجد أننا عربيا وسوريا ما نزال فعليا في مرحلة البحث عن الحل.

والحل يقتضي أن تتوافق النخب السياسية المختلفة على حل واضح، وأن تكون هذه النخب متمتعة بدعم قواعدي يقبل ويؤيد هذا الحل، وكلا الأمرين غير محققين، فلا النخب متفقة، وهناك فجوة جد كبيرة بين النخب والقاعدة الشعبية، وعلى مستوى هذه القاعدة هناك قدر جسيم من التشتت والفوضى والأمية المعرفية وفقدان التنظيم والتثقيف.

ومن القاعدة إلى القمة ما يزال ثمة استقطاب حاد بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، ولاسيما العلمانيين، وإلى حد كبير ما يزال الخطاب السائد رفضيا وهجوميا وتهجميا، وفي المحصلة إلغائيا، بحيث يبدو إلى حد كبير للناظر إلى هذا الخطاب، ولاسيما على مستوى القواعد، أن هناك عداوة مستفحلة بين العلمانية والدين، وصراعا لا ينتهي إلا بقضاء أحدهما على الآخر!

إن وضع وموقف القواعد لهما أهمية جوهرية عندما نفكر بالحل في إطار ديمقراطي، فهذه القواعد فعليا هي باختيارها وموقفها من سيحدد نجاح أو فشل أي حل، ولذا ليس من العقلانية ولا من الواقعية تجاهل واقع حال القواعد الشعبية، والتركيز فقط على خطاب النخبة، وموقف كهذا هو ليس موقفا سياسيا ولا عمليا.

وضع القواعد الشعبية - والقواعد لا تقتصر حكما على عامة الناس، بل هي تتضمن أيضا عموم المثقفين، الذين يمكن اعتبارهم الشريحة الوسطى بالمفهوم المعرفي- يمكن أن نجد انعكاسا واضحا له في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المواقع هي فعليا انعكاس افتراضي للواقع الفعلي، وهنا يمكننا أن نجد الكم الكبير من الهجوم والهجوم المعاكس الحادين بين المتدينين واللادينيين، ومن هنا ولدت فكرة هذا المقال، الذي يرى أنه من الضروري جدا توضيح العلاقة الدقيقة بين العلمانية والدين منعا للخلط والالتباس بينها وبين الضددينية (Antiriligion)، ولاسيما أن كثيرين من الضددينيين يسمون أنفسهم علمانيين، ويخلطون بين العلمانية والضددينية، وهذا المقال غايته تقديم صورة دقيقة واضحة صريحة للعلاقة بين العلمانية والدين، دون أية تجميلات أو مجاملات.

 

2- الدين والعلمانية بين الإسلاميين والضددينينن:

الإسلاميون هم إما "إسلاميون سياسيون" يتبنون مشروعهم الإسلامي المتمثل بإقامة الدولة الإسلامية المستلهمة تاريخيا من نموذج دولة الخلافة، أو هم "إسلاميون دعويون" لا يتبنون مشروعا سياسيا بحد ذاته، ولكنهم يؤمنون بفكرة أن "الإسلام هو دين ودولة"، ولا يجوز الفصل بينهما، أو هم "إسلاميون سلطويون" يتمثلون بالمؤسسة الدينية الرسمية المتحالفة عادة مع السلطة الحاكمة، وبالنسبة لكل هؤلاء الشرائح من الإسلاميين، العلمانية مرفوضة، فهي بالنسبة للإسلاميين السياسيين الذين يقعون غالبا في موقع المعارضة  عبارة عن خصم منافس، لأنها تطرح مشروعها العلماني في مواجهة مشروعهم الإسلامي، وبالنسبة للإسلاميين السلطويين هي أيضا تهديد خطير لأن علمنة الدولة وفصلها عن الدين يعني القضاء على نفوذهم وامتيازاتهم التي لن يكون لها موقع في الدولة العلمانية، وبالنسبة للإسلاميين الدعويين، مبدأ الفصل بين الدين والدولة العلماني مرفوض كليا لأنه يتناقض بنظرهم مع مبدأ "الإسلام هو دين ودولة" ولأن معايير وقيم المجتمع العلماني لا تتطابق في العديد من المسائل الهامة مع معايير المجتمع الإسلامي، وهكذا تلتقي كل هذه الشرائح من الإسلاميين على رفض ومجابهة العلمانية، ولذلك يعمد أعضاؤها إلى بث الدعاية المعادية العلمانية في أوساط عموم المسلمين، وتصوير النظام العلماني بأنه نظام يتخارج مع الإسلام، بل ويعادي الإسلام، ويلغي دوره في حياة الإنسان.

هذا الخطاب المضاد للعلمانية من قبل الإسلاميين، الذي كثيرا ما يتحول إلى هجوم حاد عليها، يقابل بهجوم معاكس مماثل من قبل الضددينيين، وهؤلاء بنظرهم الدين كله هو عبارة عن خرافات وأوهام، وهو لا ينتج إلا التخلف والتطرف والتكفير والعنف، وظهوره كان خطأ على مسرح التاريخ، وتصحيح هذا الخطأ يقتضي تقليص دور ومكان الدين في المجتمع إلى أبعد الحدود، وحصره بالمعابد، والأفضل إلغاؤه.

وكما نرى فالموقفان المتضادان هما فعليا نقيضان في الاتجاه، ولكنهما متماثلان في الطبيعة، وكل طرف من صاحبيهما فعليا لا يقبل الآخر، ولكن الضددينيين يرون أنه لا مجال لمقارنة موقفهم بموقف الإسلاميين، فبرأيهم رفضهم للمتدين هو فقط "حكم قيمة" أو رفض فكري ومعتقدي وسياسي، ولا ينجم عنه أي عنف أو خطر أو تهديد لسلامة ووجود المتدين، أما موقف الإسلاميين فهو ليس مجرد رفض لغير الديني أو الملحد، بل هو سعي للقضاء عليه بالعنف، هذا ناهيك عن اضطهاد المختلفين عقائديا من أديان ومذاهب أخرى؛ وبنظر الضددينيين ليس هناك فرق جوهري بين الإسلامي والمسلم، فكلاهما يحملان نفس الثقافة والذهنية والموقف، والإسلامي -بنظرهم- هو من نظّم ثقافته وذهنيته وموقفه في  إيديولوجية محددة وبنى عليها سياسة تطبيقية، أما المسلم العادي، فهو إسلامي مع وقف التنفيذ، ولا يصعب تحوله إلى إسلامي فعلي!  

فأين العلمانية من كل هذا؟

في واقع الأمر هذا كله بعيد جدا عن العلمانية كما سنوضح في ما سيلي من فقرات، التي سيكون من الضروري جدا إعادة تعريف العلمانية في بدايتها.

 

3- ما هي العلمانية؟

هذا السؤال قد يراه الكثيرون بسيطا، بل وربما ساذجا، فالشائع هو أن العلمانية هي "فصل الدولة عن الدين"!

ذاك التعريف للعلمانية، هو فعليا لا يعرّف شيئا في العلمانية، وهو لا يعرّف العلمانية بشكل إيجابي بناء على ماهيتها الخاصة، بل يعرفها بناء على علاقتها مع غيرها، كأن نعرف أحمد بأنه ليس صديق زيد أو نعرف الأبيض بأنه ليس الأسود.

 في ذلك التعريف تفقد العلمانية حتى ماهيتها المستقلة وتتحول إلى مجرد علاقة بين الدولة والدين؛ وذلك التعريف لا يفهم منه لماذا يتم هذا الفصل؟ وما معناه بالضبط؟ وأين تتجلى مفاعيله؟ وما هي الأسس التي يقوم عليها؟ ومها هو البديل الذي يحل محل الدين فيه؟! وقد يبدو الأمر مجرد حالة عقائدية تحل محل أخرى، ويتم فيها استبدال الحالة العقيدية التي تعتقد بوجوب ربط أو دمج الدولة والدين، بحالة عقيدية أخرى تعتقد بوجوب الفصل بين الدولة والدين، وهنا ستكون الحالة الأولى متقدمة على الثانية، فدمج أو ربط الدولة والدين يعني إقامة الدولة على أسس دينية أو أسس متوافقة مع الدين، والأساس هنا محدد وواضح، فيما ستعني الحالة الثانية إقامة الدولة ليس على الدين أو إقامتها بشكل منفصل عن الدين، وهذا وضع مبهم فضفاض، ولا يتضح فيه ومنه ما هو الأساس الذي سيعتمد لإقامة الدولة، ففي مثل هذا الوضع سيبدو أن هذا الأساس هو "غير الدين" أو "اللادين"، وهذا سيدفعنا إلى القول يأن "العلمانية نفسها هي غير الدين أو اللادين"، وهذا لا يعني شيئا كالقول "الزيت هو غير الخل" أو الأغرب من ذلك "الزيت هو اللاخل"!

في واقع الأمر، عند الحديث عن فصل الدولة عن الدين نحن مطالبون جدا بتعليل وتبرير هذا الفصل وتقديم البديل الذي يحل محل الدين فيه، ويسد الفراغ الذي يخلفه.

وهنا سيكون علينا العودة إلى مفهوم "العلمانية" نفسه، وهو في العربية مشتق بشكل مفاهيمي مُوفـّق من كلمة "عَلـْم" التي تعني "عالم"، وبذلك يصبح معنى "العلمانية" هو "العالمانية"، وهذا ما يمكن وضعه في مقابل مصطلح "إلهية" (Theism)، المشتق من كلمة (theos) اليونانية القديمة التي تعني "إله"، و"الثيئية" هي مصطلح شائع الاستخدام اليوم فلسفيا وعلميا وثقافيا، وهي تعني بشكل عام الإيمان بوجود الإله أو الألوهة، بصرف النظر عن شكل وتفاصيل هذا الإيمان، و"الثيئية" هي ضد "الأثيئية" (Atheism) التي تعني "اللاإلهية" أو "الإلحاد".

بالطبع إذا عدنا إلى جذور مصطلح "علمانية" الغرب أوروبية، فلن نجد أنه مشتق من كلمة تعني "العالم"، وهذا ينطبق على كل من نسختيه "السيكولارية" (Secularism)، وهي النسخة الأكثر شيوعيا و"اللائيكية" (Laïcité بالفرنسية) المرتبطة بالشكل الفرنسي من العلمانية، ولكن وفقا للمعنى الدلالي، نجد أن العلمانية تتخذ معنى "العالمانية" عند ترجمتها وفقا لمفهومها في العديد من اللغات، كالروسية التي نجد فيها كلمة "Светскость" (Svetskost') المقابلة "للعلمانية" المشتقة كمصدر صناعي من كلمة "svet" التي تعني "عالم"، كما ونجد مقابلها في اللغة اليونانية (kosmikismós) المشتقة بنفس الطريقة  من كلمة "kosmós" التي تعني أيضا "عالم"، وهي في الأوزبكية (dunyoviylik) المشتقة من "dunyoviy" أي "دنيوي"، وهكذا دواليك...

وهكذا.. بناء على ما تقدم، وعند مقابلة "العلمانية"، بمفهومهما كـ"عالمانية"، مع "الإلهية" أو "الثيئية"، فسنجد:

1- تعتمد العلمانية على الحقيقة المدركة والمثبتة لوجود العالم، بينما تؤمن الإلهية أو الثيئية بوجود الله إيمانا، فيما لا تحتاج العلمانية إلى الإيمان بوجود العالم لأنه حقيقة عيانية مؤكدة كليا.

2- تضع العلمانية العالمَ في مركز نظرتها للوجود، فيما يحتل الإله هذا الموقع في الثيئية،

3- تركز العلمانية في مبحثها واهتمامها على العالم، فيما يتركز مبحث واهتمام الثيئية على الله.

4- أهداف وغايات العلمانية مرتبطة حصريا بالعالم، أما أهداف وغايات الثيئية فهي بشكل رئيس آخروية.

 

3- العلمانية والإلحاد:

ما تقدم يدفع بكل تأكيد إلى السؤال المهم عن علاقة العلمانية بالإلحاد، وعما إذا كانت العلمانية تنفي وجود الله أم لا؟

بناء على ما تقدم في الفقرة السابقة، حيث تم القول أن العلمانية تنطلق من العالم الواقع وتتعامل معه، فهذا يعني أن العلمانية لا تتعامل مع المسائل الماورائية أو الميتافيزيائية ولا تبني على فرضيات من هذا النوع، والفكر العلماني يرى أن الحقائق الوحيدة المثبتة إثباتا تاما هي الحقائق العالمانية، أما المسائل الميتافيزيائية فهي دوما مسائل جدلية، وشكية ولا يمكن الوصول فيها إلى أكثر من فرضيات، وهذا ما ينطبق على المسألة الإلهية، ولذلك لا يدخل الفكر العلماني في منهجيته ومقارباته وحساباته أية عناصر ماورائية سواء كانت هذه العناصر دينية أم فلسفية، كما أنه لا تخوض في هذه المسائل لأن يدري أنه لا فائدة عملية من مثل هذا الخوض الذي لا يوصل إلى نتائج مؤكدة يمكن البناء العملي عليها  في إدارة الحياة الإنسانية العامة.

وهكذا يتصرف الفكر العلماني بمعزل تام عن الميتافيزياء والماورائيات والإلهيات، ولا يدخل في عمله أي شيء من هذا القبيل، أي أن الفكر العلماني عند يحل مسائل الواقع الذي يتواجد ويعيش فيه الإنسان، يتعامل مع هذه المسائل تماما كما لو أن الإله غير موجود، هذا على الصعيد العملي، أما على الصعيد النظري، فالفكر العلماني لا ينفي ولا يثبت وجود الإله، وهو نفسه على مستوى كونه فكرا علمانيا لا يبحث في هذه المسألة، ويتركها للفكر الفلسفي أو الديني ليخوضا فيها بقدرما وكيفما يشاءان بشرط ألا يؤدي ذلك إلى أية مفاعيل أو نتائج ضارة إنسانيا، وبنفس الوقت يتمسك الفكر العلماني دوما بموقفه من المسائل الميتافيزيائية التي لا يمكن الوصول فيها إلى حقائق تامة، ولذا يحيل المسائل الميتافيزيقية إلى الميدان الشخصي، سواء كانت هذه المسائل فلسفية أو دينية، ولذا تعتبر العلمانية الدين وأي معتقد أو فكر ميتافيزيائي آخر شأنا شخصيا محضا، وتفصله عن الدولة والمجتمع، لأنها لا تعتبره حقائق مؤكدة، وإنما تعتبره معتقدات وفرضيات لا أكثر.

وهذا يعني أن الفكر العلماني يفصل الدين عن الدولة، ليس لأنه يتبنى الإلحاد، فالأمر مختلف تماما، وخلاصته أنه يفعل ذلك لأنه يعتبر المعطيات الدينية بلا أي استثناء معتقدات وفرضيات وليس حقائق، ولا يجب بناء عليها إقامة دولة وتنظيم مجتمع حديثين.

 

4- العلمانية والعقل:

يحتل العقل في العلمانية موقع الرئاسة والصدارة، وهو في الواقع الأساس الذي تقوم عليه منهجية العلمانية، وهو المنطلق الذي تنطلق منه العلمانية، ذلك أن المنطلق الذي ينطلق منه الإنسان في مسعاه لفهم وجوده الخاص والوجود الكوني ككل، هو أنه موجود كإنسان يدرك ويعي وجود ذاته ووجود العالم الذي يتواجد فيه، كما يدرك أنه يتميز عن سواه من كائنات هذا العالم بأنه ذو عقل، وأنه لا سبيل له إلا العقل لفهم هذا العالم، وعندما يعتمد الإنسان على هذه العقل، فهو سيجد أن الحقائق المطلقة المؤكدة هي وجود الإنسان ووجود العقل الإنساني ووجود الكون، وعندما يحكّم الإنسان عقله، سيجد أن هذه الحقائق هي وحدها الحقائق التي لاشك فيها بتاتا، أما أية أطروحات ماورائية وميتافيزيائية فهي أطروحات ظنية أو شكية لا يمكن الوصول فيها إلى يقين.

وهكذا يسلم الفكر العلماني القيادة والحاكمية للعقل، والأدق القول هكذا يسلم العقل الفاعل القيادة والحاكمية لنفسه، وبذلك يصبح الاعتماد على العقل هو المنهجية العامة التي يتم اتباعها لحل كافة المسائل والمشاكل في حياة الإنسان.

وبناء على ذلك نستطيع القول أن الفكر العلماني عندما يفصل بين الدولة والدين، ويبعد الدين عن الدولة، فهو بنفس الوقت يستبدل الدين بالعقل، ويوكل إليه مهمة إعادة تأسيس وبناء الدولة والمجتمع على أسس عقلانية.

 

4- العلمانية والإنسان:

 الإنسان في الفكر العلماني يحتل المركزية في هذا الفكر، ذلك أن هذا الفكر ببساطة يدرك أنه ينطلق من العقل الإنساني الذي يسعى بواسطته الإنسان لحل مشاكل حياته ووجوده وفهم وجوده وعالمه، وهكذا يربط الفكر العلماني بشكل وثيق بين العقلانية والإنسانية، ويضع الإنسانية معيار للخير والغاية.

وعليه فالدولة في الفكر العلماني تكون من الناحية الوظيفية محكومة بالعقل، فيما تكون من الناحية الغائية موجهة لخير الإنسان، وبذلك تصبح مهمة هذه الدولة هي العمل على تحقيق وضمان حقوق وحريات الإنسان، وإدارة وقيادة المجتمع الإنساني لتطوير هذا المجتمع بشكل دائم على أسس إنسانية ونحو غايات إنسانية، بحيث يستطيع هذا المجتمع أن يؤمن لأفراده الحياة الإنسانية الأفضل، وأن يمكنهم بشكل مستمر من تحقيق وتطوير إنسانيتهم.

وبهذه المنهجية التي يتم فيها وضع الإنسان في المركز في الفكر العلماني، يتم إقرار حقوق متساوية لكل الناس بصرف النظر عن اختلافاتهم الإنسانية في الجنس أو العرق أو الدين أو القوم أو اللغة أو المهنة أو الحزب أو المنطقة، أو أي اختلاف آخر، فبالنسبة للفكر العلماني الإنسان هو الإنسان أيا كان، وأينما ومتما وكيفما كان، وبناء على التساوي في هذه الحقيقة الإنسانية يتم إقرار المساواة بين الناس في الحقوق الإنسانية، وتقر هذه الحقوق نفسها، ومن بينها حق حرية الضمير، الذي يعطي للإنسان حرية الاختيار في الدين والمعتقد والفكر وسواها من الاختلافات في ميادين الحياة المتنوعة.

 

 

5- العلمانية هي:

 بناء على ما تقدم يمكن القول أن العلمانية هي منهجية إنسانية عقلانية واقعية لتأسيس وبناء وإدارة الدولة والمجتمع لتحقيق العالم الإنساني الأفضل.

فهي إنسانية لأنها كما سلف الذكر تضع الإنسان في مركزها وفي مركز رؤيتها للعالم، وتتخذ من بناء العالم الإنساني الأفضل هدفا لها، وهي تساوي بين جميع الناس في الحقوق الإنسانية على أساس الهوية الإنسانية الموحدة والجامعة لكل الناس بصرف النظر عن أية اختلافات بين هؤلاء الناس.

وهي عقلانية لأنها تنطلق من العقل وتعتمد على منهجية العقل لحل المسائل والمشاكل المختلفة في حياة الإنسان، بما في ذلك بناء الدولة والمجتمع الإنسانيين، وفيها لا حدود تحد من حرية العقل، وليس هناك أية حدود معتقدية أو إيديولوجية مسبقة مفروضة عليها بزعم أنها حقائق نهائية، والحقائق الوحيدة التي يعترف بها هي حقائق المعرفة والعلم والعقلانية والمنطق.

وهي واقعية لأنها تتعامل مع الواقعين العالمي والإنساني المثبتين، وتعمل بناء على أسس ومعطيات واقعية، كما وتتغيا غايات واقعية، كما أنها لا تتعامل مع فرضيات ومسائل ماوارئية، ولا تخوض في غمارها، ولكنها لا تمنع ميادين أخرى من القيام بذلك، بشرط ألا يترتب على ذلك أي ضرر إنساني من أي شكل وعلى أي مستوى..

وبهذا الشكل نكون قد وصلنا إلى مفهوم إيجابي وواضح للعلمانية، وبناء عليه يمكننا أن نوضح مواقف العلمانية من القضايا المختلفة في حياة الإنسان، ولاسيما الدين منها.

 

6- العلمانية والدين:

6.1- الدين كمنتج بشري:

  في علاقتها مع الدين تعتبر العلمانية الدين ككل ظاهرة بشرية تاريخية، ولا تستثني من ذلك أي دين من الأديان الموجودة أو التي وجدت أو التي ستوجد، وفي موقفها هذا من الدين تعتمد العلمانية على المنطق العقلاني والعلوم الإنسانية، ويمكن بشكل موجز القول أن هذه الخلاصة تعتمد على الحقائق التالية:

1-  كل دين من الأديان يزعم أنه صادر عن مصدر سماوي، أي ماورائي، وهذا يُدخله فورا في دائرة الشك وعدم اليقين المرتبطة بالماورائيات، كما بينا أعلاه.

2-  كل الأديان تقوم تقليديا على أساس إيماني تسليمي، وليس على أساس عقلاني برهاني، وهي عادة تنتقل من جيل إلى جيل بالوراثة الثقافية، والاستثناءات من ذلك نادرة.

3-  تتناقض الأديان بين بعضها البعض بأشكال صارخة، وتنفي بعضها البعض، وكل دين يزعم أنه وحده الدين الصحيح، ويعتبر سواه باطلا أو ضالا أو مزورا.

4-  كل الأديان تتناقض مع العلم في قضايا جوهرية عديدة، وكل المتدينين عادة يدعون بأن دينهم لا يتناقض مع العلم الذي يؤيد هذا الدين، وإن حدث تناقض ما فهم يرجعونه عادة إلى خطأ أو عناد العلماء، أي أنهم يقفون ضد العلم حفاظا على معتقداتهم وإيمانياتهم.

5-  العلوم الإنسانية، نفسها تقول بناء على تلك المعطيات أن الأديان كلها هي من صنع وإنتاج البشر في الظروف الموضوعية المناسبة.

6-    العقل المنطقي، أو العقل الحر، بشكل عام تتبنى رأيا مشابها لرأي العلوم الإنسانية من الدين.

وعليه يمكن الوصول إلى النتيجة التي تجزم بأنه يستحيل أن تكون كل تلك الأديان المختلفة، القائمة على الإيمان والتسليم، الحافلة بالتناقضات الغفيرة والكبيرة بين بعضها البعض، وبينها وبين العلم، وبينها وبين العقل المنطقي، صادرة عن مصدر سماوي واحد، هذا ناهيك عن أن هذا المصدر نفسه هو فرضية ميتافيزيائية لا أكثر، وقد كان وما يزال موضع جدل عويص لا يبدو أنه سينتهي في وقت قريب؛ والتفسير المنطقي الوحيد لهذا الحال هو أن هذه الأديان كلها هي من صنع البشر؛ وهذا التفسير نفسه لا يبتعد إلا خطوة واحدة عن تفسير الأديان نفسها للتعددية الدينية المختلفة، حيث يقول كل دين أنه هو وحده الصحيح وسواه أديان صنعها أو زيفها البشر، وبذلك لا يستثني هذا الدين من هذا الفعل البشري إلا نفسه، فيما لا تستثني العلمانية من ذلك أي دين.

6.2- الدين كمنتج تاريخي واقعي:

بشرية الدين في منظور الفكر العلماني، تعني أنه فعليا ظاهرة موضوعية واقعية، تنشأ فعليا بفعل مجمل العوامل الواقعية المختلفة، وذلك يعني أن ظهور الدين في التاريخ البشري، هو أمر طبيعي وحتمي كليا في مسار هذه التاريخ، وأنه قد نشأ لأن الواقع التاريخي في كل لحظة من لحظات نشوئه كان يستدعي هذا النشوء ويمكّنه، بحيث يكون من المستحيل في ظروف هذا الواقع ألا ينشأ الدين، والمقصود بهذه الظروف هو بشكل رئيس مستويات الوعي والمعرفة، وأساليب وأشكال المعيشة والتركيبة الاجتماعية والسياسية، وهذا كله يؤثر على ذهنيات الناس ويجعلهم ينتجون الأفكار الدينية وغير الدينية المتناسبة مع هذا الواقع، كما ويؤثر أيضا على مدى مقبولية وانتشار هذه الأفكار وقدرتها على التأثير الفاعل في هذا الواقع.

وذاك يعني أنه من غير المنطقي بتاتا التعامل مع الدين وكأنه ظاهرة طارئة أو شاذة أو دخيلة في التاريخ البشري، وهو باختصار قد ظهر في لحظات هذا التاريخ لأنها كان ممكن وضروري الظهور؛ ومن يتعامل مع الدين بغير هذا الشكل لا يتعامل معه بشكل واقعي منطقي، وتعامله المختلف معه لن يكون أكثر من تعامل تخيلي أو اعتباطي.

هذا المنظور التاريخي الواقعي للدين يجعله في كل لحظة من لحظات وجوده- بكل حسناته وسيئاته، ومدى حجم هذه الحسنات والسيئات، وكيفما كانت آليات تأثيرها ودرجات فاعليتها- عنصرا اندماجيا تفاعليا تكامليا مع كلية واقع، أي جزءا مندمجا في الواقع الكلي ومتداخلا مع بقية أجزاء هذا الكل، ومتفاعلا معها بحيث يؤثر ويتأثر بها.

وذاك يعني في الواقع أن كل واقع ينتج دينه بما يتوافق مع وضعه كواقع، وبالمقابل، فكل دين أيضا يساهم في إنتاج واقعه بما يتوافق مع وضعه كدين، وبالتالي فأي وضع ديني خاص أو اجتماعي عام يجب ربطهما سببيا وتعليليا وبنفس الوقت بكافة جوانب الواقع المعيشية والاجتماعية والسياسية والثقافية إضافة إلى التدخلات والمؤثرات الخارجية، وهلم جرى...

وعليه يمكن القول أنه في حال وجود وضع اجتماعي متدهور أو وضع ديني متدهور، وهما عادة ما يكونان مقترنين، فتدهور المجتمع يجب عدم ربطه بالجانب الديني حصريا، حتى وإن كان هذا الجانب نفسه متدهورا، وتدهور الدين نفسه يجب عدم ربطه بدوره بشكل حصري أيضا بالعامل الديني وحده، والتدهوران، المجتمعي والديني، هما في واقع الحال تدهور واحد متعدد الصعد، وهو بنفس الوقت متعدد الأسباب، وفي هذا التدهور الشامل يكون الدين فاعلا ومنفعلا مع ومثل بقية الميادين، ويتحمل معها قسطا مشتركا من المسؤولية، ولكن ليس كل المسؤولية.

وهكذا يمكن القول مثلا أن أولئك الذين يربطون العنف التكفيري في المنطقة العربية، ومنها سوريا بالطبع، حصرا بطبيعة الإسلام، هم إما متوهمون أو مغرضون، فهذا العنف، حتى وإن كان ديني الشكل، فهو من حيث المضمون متعدد الأسباب، وفيه يجتمع ويتكامل العامل الديني مع العوامل المعيشية والاجتماعية والسياسية والثقافية والخارجية، وينتج هذا الشكل من العنف ذي المظهر الديني بسبب تقليدية ودينية المجتمع.

 

6.3- تطور المجتمع وتطور الدين:

بما أن الدين منتج بشري، فهذا يعني حكما أن فيه دوما إيجابيات وسلبيات كثيرة، صغيرة وكبيرة، والإيجابيات نفسها، قد تتغير مع تغير الظروف، فإما أن تفقد قيمتها أو حتى تنقلب إلى سلبيات، ومن مخاطر الدين هو أنه يضفي القداسة على نفسه، وهذا ما يجعله يرفض التغيير، الذي يراه متعارضا ومتخارجا مع هذه القداسة، وشكلا من أشكال التضاد معها، ويضع هذا التغيير حكما في موقع النقيض لها أي في موقع الشر والكفر والدنس، وهنا، برفضه للتغيير الذي قد تقتضي الضرورة أن يكون تغييرا جذريا، يصبح الدين عائقا أمام تقدم المجتمع وحصنا تحتمي به مساوئ الواقع.

لكن هذا ليس الشكل الحتمي الوحيد لدور الدين، فعندما تتأزم الأوضاع في المجتمع أو في الوسط الديني وتصل إلى المستويات الحرجة، فالدين قد يتغير بفعل عوامل من داخله أو من خارجه، وهذا التغيير قد يأخذ شكلا سلميا أو عنيفا، وقد يكون توجهه إيجابيا أو سلبيا.

التغير بفعل عوامل خارجية يتم عندما تتغير ظروف المجتمع الذي يتواجد فيه دين ما، ولا يعود الشكل القائم من الدين مناسبا للأوضاع الجديدة أو قادرا على الاستمرار فيها، وهنا يمكن أن تستجيب السلطة الدينية القائمة لإرادة أتباعها بالتغيير بما يتناسب مع التطورات الاجتماعية التي حصلت، أو تستجيب لضرورة مواكبة التغيرات الاجتماعية خشية فقدان أتباعها وتسربهم، أو تستجيب تحت ضغط السلطة الجديدة الحاكمة التي تفرض على هذا الوسط الديني ورئاسته شروطا محددة ملزمة للبقاء والاستمرار.

وأحيانا قد لا تحدث استجابة، ويحدث صراع بين المؤسسة الدينية القائمة والمؤسسة السلطوية المجتمعية الجديدة، وقد يحدث نزاع أو انشقاق داخل الوسط الديني نفسه، وعندما تخسر السلطة الدينية القائمة في هذا النزاع، فالنتيجة تكون إما زوالها أو استبدالها أو رضوخها لشروط التغيير المفروضة عليها.

في هذا النوع من التغيير يكون مركز التغيير وموقع مبادرة التغيير خارج الوسط الديني، وهذا هو الغالب، ولكن مع ذلك فهناك حالات ينطلق فيها التغيير من داخل المؤسسة الدينية أو الوسط الديني نفسه، وقد يحدث هذا ردا على تدهور الأوضاع داخل الوسط الديني أو خارجه؛ وهنا أيضا قد تحدث استجابة سلمية، أو نزاع ربما تخسره السلطة الدينية القائمة أو انشقاق في الوسط الديني أو انفضاض عن السلطة القائمة، وهكذا دواليك...

من الأمثلة على التغيير الذي يحدث من داخل الوسط الديني يمكن ذكر الانشقاق البروتسانتي في أوروبا، وهذا ما حدث ردا على فساد المؤسسة الدينية الكنسية الكاثوليكية حينها، من ناحية، وبسبب التطورات الاجتماعية التي بدأت في الغرب الأوروبي مع بداية عصر النهضة، من ناحية أخرى.

والمثال الآخر الذي يمكن أن نذكره أيضا على نموذج التغيير من الداخل، هو حركات الإسلام السياسي، بما فيها الحركات التكفيرية العنفية، فهذه الحركات هي من حيث المبدأ حركات تنطلق من داخل الوسط الإسلامي مدفوعة بضرورة التغيير الذي يولده الترددي الشامل في المجتمع، بما في ذلك على الصعيد الديني؛ ولكن هذه الحركات تتبنى توجهات متسلـّفة أو متطرفة، وبذلك تكون وجهة التغيير الذي تتغياه سلبية، فيما لم تكن الحركة البروتستانتية حركة متسلفة ومتطرفة دينيا، وكانت إلى حد كبير حركة إصلاحية إيجابية.

أما الأمثلة على حالات التغيير الديني الذي يأتي من الخارج، ويفرض قسرا، فيمكن ذكر الثورة الفرنسية والثورة الروسية، فيما يمكن ذكر العلمنة في بريطانيا وأمريكا كأمثلة على حالات التغيير الديني الذي يحدث كاستجابة سلمية للتغيير السلمي، ولكن حتى في الحالتين الفرنسية والروسية، ورغم أن دور الثوريتين كان حاسما، فمع ذلك التغيير في الوسط الديني لم يبدأ مع هاتين الثورتين حصريا، ففرنسا كانت قد مرت في عصري النهضة والأنوار قبل ثورتها، وروسيا بدورها شهدت إصلاحات عديدة وكبيرة من أهمها الإصلاحات التي قام بها القيصر بطرس الأكبر.  

وفي المحصلة يمكن القول أن التغيير الديني هو أمر حقيقي واقع، وهو واقعيا لا يحدث بشكل نمطي وفقا للنماذج المحددة المبسطة المذكورة أعلاه، بل يحدث بشكل معقد ويتداخل فيه الخارجي والداخلي، والاستجابة والنزاع، والسلمية والعنف؛ ولكن بنتيجته يحدث تغير ديني، وينشأ شكل ديني جديد مختلف عن سابقه بدرجة قد تكون كبيرة أو غير كبيرة، وهذا التغير الديني يمكن أن يكون بشكل رئيس نتيجة التغير في طبيعة الثقافة الدينية نفسها، ما يعني تغيرا على المستوى الداخلي للأوساط الدينية، وقد يكون تغيرا في طبيعة الممارسة بسبب الشروط الذي يفرضها النظام الجديد، وهذا تغير على المستوى الخارجي في المجتمع، وغالبا يجتمع الشكلان معا ويتحد المستوى الداخلي مع المستوى الخارجي لإنتاج النموذج الديني الجديد.

هل لدينا في عالمنا العربي تغيير من هذا القبيل؟

نعم، بكل تأكيد، وإن كان هذا يختلف بين بلد وآخر، وعلى سبيل المثال معظم البلدان العربية اليوم لا تطبق حدود الشريعة الإسلامية بشكلها الحرفي، فهي لا تقتل المرتد ولا تقطع يد السارق ولا تجلد شارب الخمر ولا تسمح بالرقّ، والكنائس العربية اليوم لا ترجم الزانية ولا تحرق المختلف بجرم الهرطقة، وهذه بعض أمثلة لا أكثر؛ وأيا كانت أسباب هذه التغيرات وسواء كانت من داخل أو من خارج الأوساط والمؤسسات الدينية، أو تمت برضاها أو رغما عنها، فنحن اليوم أمام أمر واقع هو أن هذا الوضع الراهن مقبول وموافق عليه عموما من قبل المؤسسات الدينية، وهو ينسجم مع مستوى التطور الاجتماعي الذي وصلت إليه هذه المجتمعات، وهذه حالة عملية تؤكد مقولة أن كل مجتمع ينتج الشكل الديني الذي يتناسب مع درجة تطوره وتقدمه، وعليه.. فحين تتقدم المجتمعات العربية أكثر فسينتج عن هذا حكما تقدم مماثل على المستوى الديني، ولكن هذا الأمر لا يحدث بشكل ميكانيكي، فلكي تتقدم المجتمعات فهي يجب أن تتقدم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا، وهذا ما يقتضي منها الصدق والحزم في إرادة التغيير ووعي كيفية التغيير، ومحاربة الفساد، والانفتاح، وامتلاك علاقات إيجابية مع الخارج، وهلم جرى... 

 

6.4- العلمانية وحق حرية الضمير:

بينا أعلاه أن العلمانية هي منهجية إنسانية عقلانية واقعية لتنظيم وإدارة الدولة والمجتمع وحياة الإنسان، وبناء على ذلك تعترف العلمانية للإنسان بكافة الحقوق والحريات التي يقتضيها تحقيق وتطوير إنسانيته، ومن بينها "حرية الضمير"، التي بموجبها يستطيع الإنسان أن يعتنق أو لا يعتنق أية فكرة فلسفية أو دينية أو سياسية أو أخلاقية أو سواها بشرط ألا ينجم عن ذلك أي ضرر، وألا يتعارض ذلك مع النظام العلماني نفسه.

وهكذا، وبناء على هذا الحق الذي يضمنه النظام العلماني للناس، يستطيع المتدينون، أيا كان دينهم، أن يمارسوا نشاطهم الديني كيفما وبقدرما يشاؤون في إطار الشرطين الآنفي الذكر؛ والدولة العلمانية هي نفسها تضمن لهم هذا الحق تماما، ضمن الشروط المذكورة، وتحميهم من أي تمييز أو انتقاص أو عسف أو اضطهاد بسبب دينهم، سواء من قبل مؤسساتها كدولة أو من قبل أطراف أخرى في المجتمع كجماعات دينية أو غير دينية أخرى....

لكن هنا قد يحدث التباس، فهذا الحق قد يساء فهمه من قبل المتدينين، الذين قد يتصورون أن هذا الحق يعني أنهم في النظام العلماني يستطيعون الاحتفاظ بكامل تقاليدهم الدينية؛ وهذا فهم خاطئ إلى حد كبير.

في العلمانية لا ينظر إلى المتدين كمتدين، بل كإنسان وكمواطن، وحقوقه في النظام العلماني تمنح له ليس بصفته متدينا، بل بصفته إنسانا ومواطنا، وبناء على ذلك لا يمكن منح حق معين بشكل يتعارض مع منظومة الحقوق الإنسانية.

لنأخذ على سبيل حالة تعدد الزوجات، المسلم يعتبر هذا الأمر حق شرعي له بصفته مسلم، ولذلك سيرى هذا المسلم أن العلمانية تصادر أحد حقوقه عندما تمنعه من الزواج من أكثر من امرأة.

في النظام العلماني تعدد الزوجات مرفوض كليا لأنه يخل بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ولكن حق حرية التدين مسموح.

وعندما تتعامل العلمانية مع المسلم فهي فعليا لا تتعامل معه بصفته مسلما، ولكن بصفته إنسانا ومواطنا، وهي تمنحه الحق بأن يكون مسلما بناء على كونه إنسانا ومواطنا، أي بناء على منظومة حقوق الإنسان، التي يعتبرها النظام العلماني أساسا من أسسه، ولكن منح الحق لشخص ما بأن يكون مسلما، لا يعني السماح له بناء على ذلك بخرق أسس ومبادئ النظام العلماني، ولذلك يمنع هذا المسلم من الزواج من أكثر من امرأة لأن ذلك يخرق مبدأ المساواة بين الجنسين في النظام العلماني، وهذا يعني أن أية حدود أو حريات تمنح في النظام العلماني لا تمنح بشكل مطلق أو على أسس مختلفة عن العلمانية أو تخالفها، بل تمنح على أسس علمانية، وفي إطار علماني، وهذا يعني أنها تمنح على خلفية إنسانية عقلانية.

هنا قد يطرح سؤال، إذا ماذا سيستفيد المسلم من العلمانية؟ وألن يكون فيها خاسرا عندما تصادر بعض حقوقه الإسلامية؟

الجواب هو أن هذا المسلم قطعا لن يكون خاسرا عندما نقارن ما يمنحه إياه النظام العلماني من حقوق مع ما تمنحه إياه الأنظمة الدينية، وهذه الصورة تغدو أوضح عندما نضعها على إطار عالمي عام، فالعلمانية مثلا تجعل المسلم في الغرب مواطنا متساويا مع كل المواطنين المسلمين وغير المسلمين وغير المتدينين، والعلمانية في الهند تساوي بين المسلم والهندوسي، وتمنع تغول الأغلبية الهندوسية على الأقلية المسلمة وسواها من الأقليات، والعلمانية في روسيا أيضا تساوي بين المسلم وأي مواطن روسي آخر، وهذه المساواة ما كان المسلم ليحصل عليها لو أن نظما دينية كانت هي الموجودة في أوروبا وروسيا والهند.

وحتى في بلد مسلم، النظام العلماني يستطيع أن يمنح المواطن المسلم حقوقا أكثر بكثير من النظام الإسلامي نفسه، والعديد من الحقوق التي توجد اليوم في البلدان الإسلامية، رغم هشاشة منظومات الحقوق في هذه البلدان، هي فعليا بفضل حالة التهجين بين العلمانية والإسلام، وإدخال الأفكار العلمانية في هذه المنظومات.

 

7-رد على الضددينيين:

  يعتمد الضدينيون عند هجومهم على الدين على ثلاثة أمور هي: الشكل البدئي من الدين، والتاريخ الديني، والواقع الحاضر.

الشكل البدئي من الدين يعتبره الضدينيون الشكل الأصلي من الدين وهم يعودون إليه ليثبتوا أن الدين ككل هو ظاهرة سيئة بطبيعتها، وهم عادة ما يتصرفون بشكل انتقائي، فيركزون على السيئات الموجودة في الدين، ويغفلون أو ينكرون حسناته، ولا يعترفون له بأي دور إيجابي في التاريخ، من ذلك مثلا أنهم عندما يتحدثون عن الإسلام، فالشكل الأصلي من الإسلام بنظرهم هو الشكل الذي يتيح غزو المختلفين بذريعة الكفر، وسبي نسائهم وأطفالهم والاستيلاء على مملكاتهم، أو فرض الجزية عليهم، ويسمح أيضا بالعبودية والاسترقاق ونظام الجواري، وهو الشكل الذي يعتبر المرأة عورة ناقصة العقل والدين، ويقتل من يخرج عن المذهب السائد بتهمة الزندقة ومن يغير دينه بتهمة الارتداد، وهو الشكل الذي يرجم من يمارس الجنس بشكل يختلف عن الشرعية الدينية، ويجلد شارب الخمر ويقطع يد السارق؛ وإذا تحدثوا عن المسيحية فالشكل الأصلي للمسيحية هو أيضا الشكل الذي يسمح بالعبودية، ويحرق ذا المذهب المختلف والفيلسوف والعالم بتهمة الهرطقة، ويجلد المرضى بالسياط لإخراج الشياطين التي تقتحم أجسادهم وتسبب لهم المرض، وهكذا دواليك...

ولتعزيز موقفهم هذا يعتمدون على معطيات التاريخ وما فيها من صراعات دينية ومذهبية، وتحالف بين السلطة الدينية والسلطة الحاكمة لتحقيق وضمان الهيمنة على الشعب، وتكريس للذكورية وهدر لحقوق وقيمة المرأة، ونشر للذهنية الغيية والخرافات التي تتناقض مع العقل والعلم ومحاربة للمعرفة العلمية والعقلانية، واضطهاد للعلماء والمفكرين والمختلفين عقائديا.

ويؤكدون ذلك اعتمادا على الواقع الراهن في المجتمعات التقليدية، التي ماتزال تستمر فيها إلى حد كبير أكثرية تلك الأمور، ولاسيما في مجتمعاتنا العربية التي ما يزال يتفشى التعصب الديني والطائفية والغيبية والذكورية والانقسامات، وتندلع فيها الصراعات الطائفية العنيفة أو أعمال العنف التكفيري والإرهاب، وهذا كله بنظر اللادينيين يتحمل وزره الدين.

وهكذا يمكن إجمال خصائص صورة الضددينيين للدين بما يلي:

1-  اللاتاريخية، وهي تعني عدم النظر إلى الدين كظاهرة طبيعية محتمة الظهور في اللحظة التاريخية التي تتوفر فيها الظروف الواقعية اللازمة والمناسبة، والنظر إلى الدين وكأنه بدع اتفاقية شريرة ظهرت في التاريخ البشري بشكل طارئ، وكان من الممكن بنفس القدر ألا تظهر. 

2-  السرمدية، أو الانفصال عن الواقع والحاضر، فالدين بنظرهم هو دوما ما كان عليه في نموذجه البدئي وهم لا يرون التغيرات الكبيرة التي تطرأ على نموذج الدين عبر تغير وتطور المجتمع، وإن حدثتهم عندها يقولون لك أنها حدثت ليس بفضل تغير وتطور الذهن الديني، ولكن لأن التطور اللاديني في المجتمع فرض قسرا هذه التغيرات على الوسط الديني رغما عنه وحسب.

3-  الانفصالية، وهي تعني انفصال الدين عن بقية مكونات الواقع، فالضدينيون لا يرون العلاقة الوطيدة بين الجانب الديني وبقية جوانب المجتمع، ولا يدركون التأثير المتبادل بينها وبين الدين في الإيجاب والسلب، الذي يعني تردي الدين عندما تتردى جوانب المجتمع الأخرى، وتحسنه عندما تتحسن، كما ويعني بالمقابل أن الدين بدوره يؤثر في تلك الجوانب أيضا إيجابا أو سلبا  بشكل مباشر أو غير مباشر.

4-  تحيز النظرة، وهذا يعني تجاهل حسنات الدين وإنكار أن له دورا إيجابيا في التاريخ، والتركيز فقط على سلبياته، وبشكل يفصلها عن مؤثرات الواقع الصادرة عن المكونات الأخرى الفاعلة في هذا الواقع.

5-  التوزير بوزر الغير، حيث يعتبر الكثير من هؤلاء اللادينيين أن سبب تخلف وتردى مجتمعاتنا بشكل رئيس هو في تضخم دور الدين حجما وترديه نوعا، وأنه لكي تتطور مجتمعاتنا فلابد من تقليص دور الدين إلى الحد الأدنى، وقصره على العبادة وحصره في المعابد حصريا، وهم بذلك يتجاهلون الأدوار الفاعلة الكبيرة لكل من الديكتاتوتوريات السلطوية الحاكمة، والأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية الأخرى غير الدينية (العشائرية والعرقية وسواها...)، والأنماط الاقتصادية المتخلفة، والتدخلات الأجنبية الخطيرة المستمرة، وهذا كله يلعب أدورا جد جوهرية وخطيرة في تكريس وإعادة إنتاج حالة التخلف والاستنقاع الحضاري التي ما نزال بشكل عام نتخبط فيها في منطقتنا العربية.

هذه النظرة الضدينية للدين، هي جد بعيدة عن النظرة العلمانية إليه، فالعلمانية كما سلف الذكر، تنظر إلى الدين أينما ومتـَما وكيفما وجد كعنصر اجتماعي واقعي، ينتمي إلى واقعه انتماء الجزء إلى الكل، ويؤثر ويتأثر بشكل فاعل ببقية أجزاء هذا الواقع، ولذا ليس هناك في العلمانية نموذج أصلي ثابت في الدين، ولا هناك دين منفصل عن بقية مكونات الواقع، والدين هو ما هو عليه في كل لحظة اجتماعية، وهذه هي أصالته اللحظية كمنتج نهائي بصرف النظر عن الكيفية التي وصل فيها إلى هذا الشكل، وبالتالي فعندما يتحول النموذج الديني إلى نموذج متطرف عنيف، فهذا لا يعني أن ذلك حدث لأن هذا الدين هو بطبيعته البدئية متطرف وعنيف، بل لأنه في هذه اللحظة وبنتيجة كل العوامل والظروف والأوضاع المتعددة المختلفة القائمة فيها قد دُفع إلى هذا الشكل المتطرف العنيف، وكان ليكون مختلفا في ظروف مختلفة أخرى، ومن تاريخنا السوري يمكن أن نضرب مثلا بفترة الخمسينيات التي شهدت تجربة ديمقراطية سورية تستحق التقدير الكبير، ففي تلك الأوضاع التي كان المجتمع يمر فيها بحالة مد نهضوي ونهوض وطني، لم يكن هناك أي مجال لنمو حركات متعصبة متطرفة تكفيرية، وسوريا يومها حكمها الليبراليون، وأولئك الليبراليون لم يكونوا ملحدين ولا لادينيين، ولكنهم كانوا مسلمين، "مسلمين ليبراليين"، وبنفس الوقت "ليبراليين محافظين"، وهذا ما كان في حينه نموذجا راقيا من نماذج الواقع الإسلامي، فالمجتمع السوري يومها لم يكن قد فقد إسلاميته؛ ومن النماذج الأخرى التي يمكن ضربها مثالا على هذا النوع من التطور الاجتماعي الذي يصنع تطورا مماثلا في الوضع الديني "هند المؤتمر الوطني" أو "هند غاندي ونهرو"؛ ولكن لا يمكن إنكار أن التجربة الديمقراطية السورية فشلت، والتجربة العلمانية الهندية انتكست، وهذا لم يحصل بفعل التدين حصريا، بل بنتيجة كل العوامل الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، التي دفعت المجتمع ليتغير في هذا المنحى التقهقري. 

وإضافة إلى ما تقدم، فالعلمانية قطعا لا تبخس الدين حقه، ولا تنكر حسناته، وهي بنظرتها الواقعية التاريخية إليه، ترى أنه منذ لحظة نشوئه هو قد نشأ بحكم الضرورة والمناسبة، ولو كان بلا حسنات لاستحال بقاؤه واستمراره، ولكن بنفس الوقت لا تعطي العلمانية لهذه الحسنات صفة مطلقة، بل تنظر إليها أيضا نظرة واقعية وضعية نسبية، وهذا يعني أن حسنة في واقع ما وظرف ما قد لا تعود حسنة في سواهما، بل وقد تتحول إلى سيئة في واقع وظرف آخر.

وعدا عن ذلك فالعلمانية لا تحمّل الدين وزر سواه، وهي وإن كانت تؤكد على جسامة دور وتأثير الواقع الديني المتردي في إنتاج أزمة المجتمعات، إلا أنها قطعا لا تربط هذه الأزمة حصرا بالدين، بل، وكما سلف التنويه، تؤكد وتركز بشكل مكثف أيضا على أدوار بقية المكونات كالسلطة الحاكمة وطبيعة ووضع الاقتصاد والعوامل الديموغرافية والتأثيرات الخارجية، وسواها؛ وفي اللحظة العربية الراهنة، التي نجد فيها بشكل عام أوضاعا شديدة التأزم على الساحة العربية، وإن اختلفت تفاصيلها كثيرا بين بلد وآخر، فالعلمانية لا تربط هذه الأزمة بالدين، بل ولا تحمّله حتى المسؤولية الأكبر فيها، وهي ترى أن المسؤولية الأكبر تتحملها أنظمة الاستبداد العربية الحاكمة والتدخلات الأجنبية المغرضة.

 

8- خطر الدعاية الضددينيية:

كل إنسان يحب ما يخصه ويدافع عنه، وبالأخص عندما يكون هذا عقيدة إيمانية مقدسة، وعندما تتعرض هذه العقيدة للهجوم من قبل جهة ما، فمن الطبيعي تماما أن يعتبر أصحاب هذه العقيدة المهاجم معتديا، وأن يستنفروا للدفاع عن عقيدتهم ضده، وهذا ما يدفعهم للتشبث بهذه العقيدة وللالتفاف على أنفسهم أكثر فأكثر، وفي المحصلة، في هذه الحالة التي يصبحون فيها في حالة مواجهة، يغدون أكثر انغلاقا ومحافظة واستنفارا، وأقل استعدادا للتغيير والإصلاح، وأقل تقبلا للمختلف وقابلية للتعاون معه، وأكثر تقبلا للأفكار الدينية المتشددة والمتزمتة، وأكثر استعدادا لقبول التطرف الديني والقيام بالعنف الديني؛ وعندما تكون هذه العقيدة التي تتعرض للمهاجمة كثيرة الأنصار، أو أكثرية في مجتمعها، فمهاجمتها كعقيدة تولد لديها ردة فعل سلبية قوية، تكون في المحصلة أحد الأسباب المهمة لزيادة التوتر والانقسام والعصبية في المجتمع، ما يزيد بدوره من عرقلة وحدة وتطور هذا المجتمع، ويدفعه في المسار المعاكس.

وهذا ما تؤدي إليه الدعاية الضددينية في مجتمعاتنا!

فالمسلمون يشكلون الأغلبية الكبرى من سكان المجتمعات العربية، وعندما يضاف إليهم المسيحيون، فهذا ينتج أغلبية أكبر تضم معظم سكان هذه المجتمعات، ولا يبقى إلا قلة قليلة من اللادينيين.  

وهكذا فعند مهاجمة وازدراء الضددينيين للأديان، وبالأخص للإسلام والمسلمين، فهجومهم هذا لا يؤدي إلى أي شيء حسن، بل على العكس، وهو يزيد السوء سوءا في حالة اجتماعية يتفشى فيها التشدد والتزمت كالحالة العربية.

وفي المحصلة، فهذا السلوك غير المسؤول من قبل الضددينيين، ينعكس بدرجة شديدة السلبية على العلمانية، وكذلك على تطور المجتمع.

فبالنسبة للعلمانية، وبما أن الأمية المعرفية والثقافية هي حالة متفشية على الساحة العربية، وعادة ما يتم الخلط وعدم التمييز فيها بين العلمانية واللادينية والضددينية والإلحاد وسوى ذلك، هذا من ناحية، وبما أن الضددينيون هم أنفسهم يدرجون في عداد العلمانيين، من ناحية ثانية، فهذا الخطاب الضدديني سيبدو وكأنه خطاب علماني تتبناه العلمانية، وبهذا الشكل ستتولد قناعة أو تتأكد قناعة موجودة سابقا لدى الأغلبية المؤمنة بأن العلمانية هي عدوة للدين، وبذلك ستتبنى هذه الأغلبية المتدينة موقفا عدائيا من العلمانية، وتتشبث بالشكل السائد المأزوم من الدين الذي يحتاج بدوره إلى إصلاح جذري، وبذلك يكون هذا الخطاب الضدديني قد ساهم في إبعاد الجمهور المتدين عن العلمانية، بل ووضعها في مواجهته، وساهم في التشبث بالشكل المتردي السائد من الدين، وفي زيادة حدة حالة الانقسام والتخندق والانغلاق، وهذا كله لا يخدم قطعا قضية تطور المجتمع بل يفعل العكس تماما.

 

9-خاتمة:

بناء على ما تقدم، يمكن القول أن العلمانية هي منهجية إنسانية عقلانية واقعية للتعامل مع الواقع وتوجيه حياة الإنسان وبناء الدولة وتنظيم المجتمع، وهذا ما تعرّف نفسها به بشكل مستقل عن الدين والعلاقة القائمة بينه وبين الدولة؛ وهي بما هي كذلك تشكل  منهجية منفصلة عن كل المنظومات التي تحدد نفسها بشكل أو بآخر من خلال علاقتها مع أو موقفها من الدين مثل اللادينية والضد دينية والإلحاد وسواها؛ ومن منهجية العلمانية الإنسانية العقلانية الواقعية يشتق مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، الذي يعتبر في العلمانية نتيجة منطقية تترتب حكما على تلك المنهجية، الذي يترتب عليها حكما أيضا ألا تضع العلمانية نفسها بتاتا في موضع النقيض أو البديل الإيديولوجي للدين، وألا ترفض قطعا وجوده في المجتمع.

وفي علاقتها مع الدين، تعتبر العلمانية،  كما سلف القول، كل الأديان نتاجات بشرية، ينتجها البشر في الظروف المعيشية والمعرفية الواقعية المناسبة، التي لا يكون العقل البشري فيها قد تطور بما يكفي ليفسر ويفهم العالم بشكل عقلاني علمي ويتعامل معه على هذا الأساس، وهذا معناه أن الفكر العلماني يعتبر الأديان ككل نتاجات "غير عقلانية الأساس"، وهذا "تحديد طبيعة" وليس "حكم قيمة"، وبناء على ذلك ترى العلمانية أن الدين لا يصلح في العصر الحديث لبناء الدولة وإدارة المجتمع، حيث يتوفر البديل العصري الأفضل المتمثل بالعقل العقلاني المعرفي.

مع ذلك فالعلمانية التي تقوم على أسس إنسانية وعقلانية وواقعية، وترى الدين دوما حيث يوجد جزءا عضويا من كلية الواقع الاجتماعي القائم، يترتب عليها حكما جملة من المآلات، فواقعية العلمانية يترتب عليها قبول الدين لأنه عنصر واقعي من عناصر الواقع، وعقلانية العلمانية يترتب عليها الاعتراف بأن الدين حيث يوجد فهو يوجد لأن أتباعه قلوا أم كثروا يحتاجونه ويريدونه، وإنسانية العلمانية يترتب عليها ألا تفرض على الناس شيئا لا يريدونه أو تمنعهم قسرا من شيء يريدونه، وفي المحصلة تكون النتيجة المترتبة على كل هذا هي اعتراف العلمانية بالدين كخيار إنساني، وقبول وجوده ونشاطه في المجتمع استجابة وتوافقا مع أسس ومبادئ العلمانية نفسها بشكل عام، وبشكل خاص مع مقتضيات منظومة حقوق وحريات الإنسان، التي تعتبرها العلمانية ركنا رئيسا من أركانها.    

وهكذا، وبناء على حق حرية الضمير، تفسح العلمانية المجال الأوسع للدين على المستوى الشخصي الذي يتسع بدوره في النظام العلماني إلى أقصى الحدود الممكنة، ولكن حرية الضمير، وكل حرية أخرى في العلمانية، تبقى دوما محكومة بأقصى درجات الحزم بألا ينتج عنها أي ضرر وألا تتعارض أو تتناقض مع المبادئ والقوانين العلمانية، أو تتناقض مع الحريات الأخرى، كحرية النقد مثلا، فحرية التدين التي تمنحها العلمانية لمواطني مجتمعها لا تعني قطعا إعطاء الدين، أي دين، الحصانة، وحمايته من النقد، لأن هذا بدوره يتعارض مع حريات الآخرين من ناحية، ويحرم التقدم المجتمعي من فوائد النقد العقلاني البناء من ناحية أخرى.

ومن المهم جدا تذكره في هذا السياق، هو أن حرية الفكر والاعتقاد التي تمنحها العلمانية للإنسان، وتساوي فيها بلا استثناء بين جميع المتدينين وغير المتديين، تمنح للإنسان بصفته الإنسانية والمواطنية في النظام العلماني، ولذا لا يقبل النظام العلماني أية مطالبات بحقوق محددة خاصة على أساس أي  دين أو معتقد أو فكر خاص، فالنظام العلماني في قوانينه لا يتعامل قطعا مع متدينين أو متفلسفين أو متأدلجين، وهكذا دوليك، بل يتعامل مع كل أولئك، وكل من يشبهم في هوية أو انتماء أو صفة خاصة، كأناس وكمواطنين، وبناء على ذلك يقر لهم جميعا حقوقا متساوية موحدة، وفي عدادها يدخل حق الاعتقاد والفكر والنقد.

وخلاصة الكلام هي أن العلمانية في منظورها الخاص للدين تتعامل معه كعنصر من منتجات ومكونات الواقع البشري، وتقبله بهذه الصفة، ولكنها تعيد هندسته بحيث تجعله قابلا للتوافق مع المبادئ العقلانية والغايات الإنسانية التي تقوم عليها المنهجية العلمانية، وبحيث يغدو وجوده وفعاليته في المجتمع قابلين وقادرين على المساهمة في بناء عالم إنساني أفضل.

وبهذا الشكل نكون قد وضحنا ماهية العلمانية وحقيقة موقفها من الدين، كي لا تختلط الأمور ويساء الفهم وتتخذ المواقف على أسس غير صحيحة، ويحدث الرفض والنزاع، في وقت يمكن أن يكون فيه ويجب أن يكون فيه الموجود والسائد هو الفهم الصحيح والقبول والاتفاق بين الأطراف المختلفة، في سوريا، وفي سواها من البلدان العربية، فهذا جد ضروري لإيجاد السبل الصحية والفعالة  لبناء المجتمعات والدول العصرية الحديثة في هذه البلدان.

 

*

المقالة منشورة في ثلاثة أجزاء في مجلة "صور":

 https://www.suwar-magazine.org/a/2360
https://www.suwar-magazine.org/a/2365
https://www.suwar-magazine.org/a/2367

وعلى "الشبكة الليبرالية الحرة"

https://libral.org/vb/showthread.php?t=349145


المستقبل (ليس) وقت فراغ ‫‬

المستقبل (ليس) وقت فراغ

هل يأتي عصر العبودية الجديدة في ظل الرأسمالية الرقمية؟

تأليف:سيلينا مارينا فلاديميروفنا وأوليغ نيستيروف([1])

ترجمة: رسلان عامر

 

 

 

إن أشكال وظروف العمل في العالم الحديث تتغير بشكل كبير وربما لن تبقى هي نفسها أبدا، وعلى نحو متزايد، يتم سماع أفكار حول آفاق ما يسمى بمجتمع ما بعد العمل، حيث سيتم تخفيض العمل البشري إلى الحد الأدنى؛ ولكن حتى في عالم ما بعد العمل المرقمن، قد يكون اكتساب الحرية الشخصية والحفاظ عليها أمرا مستحيلا. موقع "البوابة العلمية والتعليمية"([2]) وبمساعدة بحث طالب الدراسات العليا في الصحة والسلامة والبيئة أوليغ نيستيروف، يكشف كيف يمكن أن يؤدي فرْض الترفيه الرقمي المدفوع الأجر إلى تحوله إلى عمل رقمي كامل وشكل جديد من أشكال العبودية.

 

رأسمالية المنصات ومشكلة وقت الفراغ

اقتصاد المستقبل هو الرأسمالية الرقمية المتأخرة، وتسمى أيضا رأسمالية المنصات أو رأسمالية البيانات الضخمة؛ ولطالما اهتم الباحثون بمسألة وقت فراغ الإنسان في هذا الواقع الاقتصادي الجديد، وكذلك بآفاق مجتمع ما بعد العمل بشكل عام.

كيف سيقضي إنسان المستقبل، الذي يعمل من أجله الذكاء الاصطناعي، والمنصات التي تبسط شؤونه اليومية، وقت فراغه؟ يحدد طالب الدراسات العليا أوليغ نيستيروف، في مقالته "مشكلة وقت الفراغ في رأسمالية المنصات"، المنشورة في مجلة "الفلسفة" التي تصدرها "المدرسة العليا للاقتصاد" في "جامعة الأبحاث الوطنية" الروسية، أربع مجموعات من النظريات في مناهج حل مشكلة وقت الفراغ:

1- وقت الفراغ كفرصة لممارسة أنشطة أخرى (على سبيل المثال، الإبداع والهوايات والألعاب والتعلم وما إلى ذلك) وتحقيق الذات؛

2- وقت الفراغ كعبء (الشخص لا يعرف بماذا يفعل يشغل نفسه، وبالتالي يقضي وقته دون فعل شيء مثمر)؛

3- وقت الفراغ كعمل رقمي (العمل، أثناء تعرضه للتحول، لا يختفي، بل يصبح رقميا ووقت الفراغ لا يصبح أكبر)؛

4- الفراغ كنشاط رقمي (التحرير الشكلي لوقت العمل لا يحرر الشخص، حيث أن هذا الوقت يتم الاستحواذ عليه بواسطة رأس المال ويُملأ ليس فقط بالعمل الرقمي بمعنى أنشطة الإنتاج المباشر للمنتج، لكن أيضا بالانشغال الرقمي، الذي يستهدف أيضا الربح).

وفي تحليله لآفاق وقت الفراغ الرقمي في مجتمع ما بعد العمل، يركز الباحث على تطوير أفكار المجموعة الأخيرة من النظريات المخصصة لوقت الفراغ كنشاط رقمي؛ وينظر أوليغ نيستيروف إلى آفاق وقت الفراغ الرقمي في إطار مفهوم مجتمع ما بعد العمل الذي وضعه نيك سرنيسك وأليكس ويليامز، والذي يفترض أن تحول المجتمع ممكن من خلال تغيير العلاقة بين العمل ورأس المال؛ والنقاط الرئيسة في هذا "البرنامج" هي: الأتمتة الكاملة للعمل، وتقليص ساعات العمل، وإدخال مفهوم الدخل الأساسي اللامشروط (UBI) ورفض أخلاقيات العمل.

 

دعونا نوضح بعض المفاهيم:

طلب تخفيض ساعات العمل مقابل زيادة التركيز على الأرباح

في الظروف الحقيقية لعمل الدولة والمجتمع، وكذلك مع الأخذ في الاعتبار الإمكانيات المحدودة للأتمتة، كما يلاحظ أوليغ نيستيروف، يجب أن تبقى حصة كبيرة من العمل اللازم في المجتمع، الذي يتمثل بدعم العمليات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية، وكذلك العمل في قطاع الخدمات والشركات الرقمية؛ وربما تتمثل الحصة السوقية الرئيسة في المستقبل، وفقا للمنظرين الاجتماعيين، في شبكة من الشركات الاحتكارية الرقمية؛ وستصبح البيانات هي المصدر الرئيس للمواد الخام لتحقيق الربح؛ وفي هذه الحالة، سيتم تقسيم الناس إلى أولئك الذين يضطرون إلى العمل، وهم في الأساس في خدمة المجتمع، وأولئك الذين سيبقون دون عمل.

إن الفرق بين الأفراد في الدخل، ومقدار وقت الفراغ، وخصائص التعليم يجب أن يخلق عوامل جديدة لعدم المساواة الاجتماعية، وبالتالي، فإن مسألة ملء الوقت المحرر سوف تتعلق بشكل رئيس بالجزء الثاني من المجتمع.

وعلاوة على ذلك، كما يشير الباحث، سيتم طرح السؤال بشكل مختلف في رأسمالية المنصات: هل سيكون هناك بالفعل المزيد من وقت الفراغ؟

وبالنظر إلى التوقعات المتعلقة بخفض العمالة وإدخال الدخل الأساسي غير المشروط، فمن ناحية، ستتاح لشركات المنصات الفرصة للحصول على أرباح إضافية على حساب الحكومة، فضلا عن المكاسب في توفير تكاليف العمالة؛ وستتمكن المؤسسات من العمل بعدد أقل من الموظفين الرسميين، بالإضافة إلى خفض رواتب أولئك الذين ظلوا يعملون، حيث لا يمكن تخفيض عدد أمكانهم.

«وهذا (التخفيض للأجور) يمكن أن يحدث بناء على اعتبارين؛ فأولا، أولئك الذين مايزالون يحتفظون بوظيفة سيقدرون هذه الوظيفة كثيرا، لأن البديل هو البطالة القسرية ودخل أساسي لامشروط متواضع إلى حد كبير؛ ولكن في الوقت نفسه، سيحصل الموظفون أيضا على دخل أساسي لامشروط، وهذا يعني أن الرأسماليين، الذين يحاولون توفير المال، يمكنهم خفض الرواتب بمقدار الدخل الأساسي اللامشروط»، كما يعلق أوليغ نيستيروف، وبالتالي، ستحتفظ الشركات بالمال المدخر داخل نظامها، وفي المحصلة ستكون الدولة هي بشكل أساسي من "يدفع" الأرباح للشركات.

ومن ناحية أخرى، فإن عدم اليقين بشأن حجم الدخل الأساسي اللامشروط، فضلا عن أسسه الأخلاقية، يلقي بظلال من الشك على مضمونية النمو الاقتصادي، وبالتالي قد تصبح الشركات، من أجل الحفاظ على القوة الشرائية، مهتمة أيضا بدفع جزء من الدخل مقابل النشاط عبر الإنترنت.

ويلفت الباحث الانتباه إلى أن أحد القيود على ربح شركات المنصات هو إجمالي وقت الفراغ للمشاركين في الشبكة، والذي يصبح مصدرا وشرطًا لتوليد الدخل؛ فيما يفترض عدم المساواة الاجتماعية في مجتمع ما بعد العمل أن يكون جزء من هذا المجتمع في الخدمة (العمل الإلزامي الضروري) ويتلقى دخلاً إضافيا مقابل ذلك، في حين أن الجزء الآخر لديه الفرصة لألا يعمل أو ليس لديه الفرصة ليعمل، ولكن في نفس الوقت لديه قدر كبير من وقت الفراغ، وهنا حتى بوجود الدخل الأساسي اللامشروط، قد يسعى هذا الجزء الثاني من المجتمع للحصول على دخل إضافي.

وبالتوازي، يحدث تحول جذري في التوازن بين العمل والراحة والحياة الشخصية، ويركز أوليغ نيستيروف على ما يسمى باستراتيجيات تخصيص الوقت.

وعلى سبيل المثال، تشير إحدى الأوراق البحثية إلى جاذبية مهنة عامل النظافة للشباب في جنوب إسبانيا،إذ يبدأ يوم العمل في الساعة الخامسة صباحا وينتهي في الساعة التاسعة؛ واليوم كله تقريبا مجاني؛ وهذه، كما يشرح العلماء، هي إستراتيجية عدم التزامن- التحول في "المعايير الزمنية" للفرد مقارنة بالمعايير العامة.

وهكذا، برأي المؤلف، ينعكس الطلب في المجتمع على تخفيض ساعات العمل وإمكانية تنظيمها بشكل مستقل؛ وعلاوة على ذلك، في ظل ظروف الرأسمالية الرقمية المتأخرة، قد يصبح النشاط عبر الإنترنت هو القاعدة أو حتى مصدر الدخل الوحيد لنسبة كبيرة من السكان..

 يمكن لشركات المنصات أن تعمل كمصادر للدخل الإضافي والرئيس للمستخدمين، وإذا مر اليوم قدر كبير من الوقت بين العمل والدفع، فيمكن تجميع الدفع مقابل النشاط في المستقبل على الفور تقريبا، وهذا بدوره، على الرغم من المطالبة بتخفيض ساعات العمل، يمكن أن يعزز توجه الناس نحو كسب المال، فإذا "عملوا" بجدية أكبر ولفترة أطول، يمكنهم بشكل أسرع استبدال الأموال بالاستهلاك؛ ومثل هذه الظروف ستشكل الأساس لازدهار جديد للرأسمالية، حيث أن هناك تكثيف ليس فقط العمل، ولكن أيضا للاستهلاك، حيث يتم تقليل الوقت اللازم لتلبية الاحتياجات.

«هل يمكننا أن نصدق أن المجتمع سيكون راضيا بقدر صغير أو حد أدنى أو حتى كاف، ولكن محدود عن الدخل الأساسي اللامشروط في ظروف يحصل فيها جزء منه على دخل إضافي من العمل الضروري والمفيد للمجتمع؟ وعندما يكون هناك في الوقت نفسه "منجم" من الأموال متاح للجميع، حيث لا يُطلب من الشخص سوى القليل جدا، بحيث يتم الاتصال بالشبكة وتنفيذ إجراءات معينة، مثل عرض الأخبار، ووضع الإعجابات، والتوصية بمنتج أو خدمة للأصدقاء، أو مجرد الدردشة، وما إلى ذلك؟»، كما يناقش أوليغ نيستيروف.

 

هل العطلة مدفوعة الأجر هي عرض لا يمكنك رفضه؟

إن النوع الجديد من النشاط المدفوع الأجر والذي يمكن للجميع الوصول إليه هو شيء يمكن أن يحل محل العمل المأجور في مجتمع ما بعد العمل، ويمكن أن يصبح وقت الفراغ مورداً جديداً للعمل الرقمي.

يشير الباحث إلى أنه سيكون من الأصح تسمية مثل هذه الأنشطة بأوقات فراغ مدفوعة الأجر، بناء على كيفية إدراك الشخص لها ("أنا أقضي وقتا على الإنترنت والعب ألعاب الكمبيوتر، وأحصل على أجر مقابل ذلك")، وبالإضافة إلى تمرير موجز الأخبار، والتواصل على الشبكات الاجتماعية، ومشاركة المحتوى، قد يشمل الترفيه المدفوع ألعاب الكمبيوتر عبر الإنترنت، ومشاهدة المحتوى مع الإعلانات المدمجة، وما إلى ذلك؛ وهذا النشاط في معظمه لا يتطلب معرفة مهنية أو مهارات خاصة أو قدرات فكرية أو مجهودا بدنيا، وحتى الطفل يمكنه كسب المال بهذه الطريقة إذا كانت بصمته الرقمية ذات أهمية تجارية للمنصات.

عبر أوقات الفراغ المدفوعة الأجر، لا يتم الدفع مقابل الإجراءات الرئيسة فحسب، بل يمكن ببساطة الدفع مقابل الوقت الذي يتم قضاؤه على الإنترنت؛ و«في الأعمال العلمية يُطلق على مثل هذا النشاط على الشبكة أحيانا اسم العمل غير المرئي، ويعني هذا المشاركة في إنتاج البيانات أو "الآثار الرقمية"، غير الملحوظة للمستخدم» ، كما يشير الباحث؛ وفي الوقت نفسه، ستضطر شركات المنصات إلى التنافس على المستخدمين، وتحفيزهم بكل الطرق الممكنة، ودفعهم اقتصاديا لقضاء أوقات فراغهم في فضاءها الافتراضي.

أصبح تكتيك الدفع، أو الضغط النفسي غير المباشر الذي يهدف إلى تحفيز وحث النشاط نحو هدف محدد في الاقتصاد الحديث، مشهورا بفضل كتاب "الدفع (Nudge). الهندسة المعمارية للاختيار. كيفية تحسين قراراتنا بشأن الصحة والثروة والسعادة" من تأليف ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين، ومن هنا تم تسميته بـ "الدفع" (Nudging)؛ ويوضح أوليغ نيستيروف أن الدفع يمكن أن يكون له أكثر من مجرد بعد اقتصادي؛ وقد لاحظ بعض المؤلفين التحول إلى الدفع عند حديثهم عن الفرْض الاجتماعي والمهني لقضاء وقت الفراغ في أيامنا هذه.

نظرية الدفع (Nudge Theory بالإنكليزية) هي مفهوم في البحوث متعددة التخصصات، يفترض القدرة على التأثير على عملية اتخاذ القرارات الجماعية والفردية من خلال التعزيز الإيجابي والتعليمات التي تبدو غير مباشرة، ووفقا لهذا المفهوم، فإن التحفيز على العمل لا يقل فعالية عن الإكراه بالقوة على العمل أو التوجيهات المباشرة.

و"الدفع" كمبدأ، برأي الباحث، سيصبح أحد المبادئ الأساسية في تحديد ملء أوقات فراغ الناس في ثقافة مجتمع ما بعد العمل في ظل الرأسمالية الرقمية المتأخرة، وعلى أية حال، فأساسياته تعمل بالفعل بفعالية كبيرة.

 

مخاطر مجتمع ما بعد العمل

على الرغم من أن الترفيه الرقمي يعتبر اليوم وقتا للإرجاء والاسترخاء، إلا أنه غالبا ما يكون بعيدا عن كونه عديم الفائدة، كما يشير الباحث؛ فقراءة الكتب والأخبار، ومشاهدة الأفلام ومقاطع الفيديو، والألعاب عبر الإنترنت، والمراسلات، والتسوق، تعني، بالإضافة إلى التعبير الاستهلاكي الواضح، التواصل الذي يعمل كوسيلة لتكوين الهوية.

وبالإضافة إلى التواصل المباشر، فإن اختيار نوع معين من الترفيه الرقمي يتيح للشخص أن يشعر بأنه جزء من مجتمع معين، على سبيل المثال، مشاهدة الأفلام تفتح الباب أمام مجتمع من عشاق الأفلام، والألعاب عبر الإنترنت أمام مجتمع اللاعبين، والتسوق أمام مجتمع المتسوقين، أي أن الناس يتحدون بالتفضيلات.

لكن المرمى الاقتصادي في شكل الدفع (nudge)-الفرْض يمكن أن يسهم ليس فقط في استبعاد أنواع الأنشطة الإيجابية الأخرى، بل وأيضاً في "محو القيمة الجوهرية لقضاء وقت الفراغ المدفوع الأجر بالنسبة للفرد، وتحويله إلى عمل رقمي فارغ لا معنى له".

إن وقت الفراغ، المتحرر تماما من العمل المأجور والأعباء الأخرى، والذي يشكل الأساس لإعادة التفكير الوجودي في وجود الفرد، يمكن أن يصبح مرة أخرى وقت عمل لغالبية المجتمع؛ كما ويلفت أوليغ نيستيروف الانتباه إلى المخاطر الأخرى لرأسمالية المنصات، وبالتالي، قد تكون المشكلة هي هيمنة منصات المقامرة الرقمية كأحد أنواع المنصات التي تغدو مصدر دخل غير مضمون وإفقار محتمل.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار الدفع الإلزامي مقابل نشاط المستخدم على الشبكة بمثابة إجراء بديل لمكافحة عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي سيجعل الشخص يعتمد على الشبكة، لأن العطلة المدفوعة الأجر قد تصبح السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة، وفي هذه الحالة، وفقا للباحث، قد يصبح المجتمع أقل حرية اقتصاديا مما هو عليه الآن.

ويشير أوليغ نيستيروف أيضا إلى مشكلة أخرى، وهي العلاقة بين تعريفات الدفع وأسعار السلع والخدمات، ومن الممكن أن تؤدي الفجوة الحرجة بينهما إلى ظهور شكل آخر من أشكال العبودية الاقتصادية؛ وسيتعين على المستخدمين قضاء الحد الأقصى من وقت الفراغ على الإنترنت لكسب الحد الأدنى من الأرباح؛ وبالإضافة إلى ذلك، فإن إمكانية التحكم بأسعار السلع والخدمات من قبل الدولة وقطاع الأعمال، وكذلك إمكانية  التحكم بتعرفة الدفع مقابل النشاط الرقمي، يمكن أن تؤدي في الواقع إلى انحطاط الرأسمالية الرقمية وانغلاقها على نفسها، مما سيساهم في اغتراب الناس ليس فقط عن الأنشطة، ولكن أيضا عن بعضهم البعض.

ويعتقد الباحث أن تحديد أسعار مرتفعة للسلع والخدمات، بوجود حد أدنى من الدخل الأساسي اللامشروط ومعدلات تعريفة منخفضة لنشاط المستخدم، فضلا عن استخدام قوات الأمن لقمع الاحتجاجات المحتملة، يمكن أن يؤدي إلى التوتاليتارية الرقمية..

وقد توصل الباحث إلى استنتاج مفاده أنه في المجتمعات الرأسمالية المتأخرة، بما في ذلك مجتمعات ما بعد العمل، يمكن للشخص أن يفقد المزيد من الحرية، وينخرط في أشكال جديدة من التبعية، وهذا بدوره يعني شكلا جديدا من أشكال العبودية العملوية والاقتصادية.



[1] - أوليغ نيستيروف (Oleg Nesterov) هو صاحب البحث، وهو طالب دراسات عليا في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في كلية العلوم الإنسانية في المدرسة العليا للاقتصاد في الجامعة الوطنية للأبحاث في روسيا؛ سيلينا مارينا فلاديميروفنا (Selina Marina Vladimirovna) هي كاتبة المقالة، وهي محللة ومعدة مواد في موقع (IQ.HSE)، و تحمل ماجستير في علم النفس من المدرسة العليا للاقتصاد الآنفة الذكر؛ والمقالة أعلاه منشورة في6 يوليو 2023.

[2] - IQ.HSE (IQ Research and Education Website – HSE University), https://iq.hse.ru/

 

*

المقالة منشورة على مجلة "الرافد"

 المستقبل (ليس) وقت فراغ