فهرس المحتويات

الجمعة، 27 أبريل 2018

صناعة الإرهاب و العوامل المتداخلة و المتكاملة فيها

 رسلان عامر


   
   أصبح الإرهاب اليوم خطرا عالميا حقيقيا، و هو يصور على الصعيد العالمي و كأنه الخطر الأكبر و الأساسي الذي يهدد الجميع في الشرق و الغرب ، و الشمال و الجنوب، و بالرغم من عدم نزاهة و حيادية هذه الصورة، و ارتباطاها بعملية تسويق سياسي و استثمار مصلحي تضلع فيه قوى محلية و إقليمية و عالمية، فحقيقة ً ما كان لهذه الصورة أن تتحقق  لولا .. وجود تجسيدها الحقيقي على أرض الواقع في قوى فعلية فعالة، تمارس بامتياز الإرهاب و التكفير و التطرف بأعنف أشكاله، و تعتبر المناطق الإسلامية، و بالأخص العربية منها، أكبر منابت الإرهاب، و هنا لا بد من طرح السؤال عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.. و العوامل الفاعلة فيه، و دور كل من الظروف الداخلية المختلفة، السياسية و الاقتصادية، الاجتماعية و التاريخية، و الثقافية و الدينية، و الظروف الخارجية المرتبطة بالفواعل و القوى الإقليمية و الدولية.. و تداخل و تناقض علاقاتها و مصالحها، و ما يستجرّ ذلك من صراعات ذات أساليب  مختلفة!
   و في هذه المقالة سنحاول الإجابة عن سؤالين :
  - لماذا يصبح شخص ما إرهابيا؟
  - و لماذا أصبحنا عربيا في صدارة منتجي الإرهاب.
     

   كيف يصبح شخص ما إرهابيا؟
   في بيئة ذات موروث يتسم بالتدين الشديد، و ذات موروث ثقافي متدن، لا مفر من انعكاس التدني الثقافي بشقيه الثقافي العام و الديني الخاص على الحالة الدينية للناس و تركه لأثاره السلبية عليها.
  و مع استفحال الاستبداد  و ما يرافقه من هدر لحقوق الناس المادية و المعنوية، و تدن ٍ لمستويات المعيشة اقتصاديا و ثقافيا، ماديا و روحيا، و تفشي ظواهر القمع و الاستغلال و التهميش، تستفحل حالات القهر و الكبت و الفقر و الحرمان و الجهل و التخلف، مما يؤدي لنشوء ظاهرة الفرد "الناقم الجاهل"، فتراكم القهر و الحرمان يراكم الإحساس بالغبن و التوتر عند الشخص إلى أن يصل به إلى حد النقمة، و قد تكون هذه النقمة موجهة ضد جهة محددة، أو تكون – و هذا هو الأخطر- غير محددة الجهة ، مما يسهل إمكانية توجيهها ضد جهات شتى في الظروف المناسبة.
    و مع ترافق حالة النقمة مع الجهل، و قابلية معظم العقائد، الدينية أو الوضعية، للاستغلال على مبدأ "شرعنة العنف"، الذي يجعل من الشخص الشديد الاعتقاد بدرجة أو بأخرى شخصا قابلا لممارسة العنف ضد الآخرين، قانعا بأنه بذلك يخدم الحق الذي يمثله باضطهاد الآخرين الذين يمثلون الباطل، و هذه الحالة ليست محصورة بالمعتقدات الدينية و حسب، بل تتعداها أيضا بقوة إلى المعتقدات الوضعية، و قد وقع فيها - مثلا - كل من الثوار الفرنسيين و الروس و الصينيين، الذين اضطهدوا الملايين من أبناء شعوبهم، بدعوى أنهم أعداء للثورات التي قامت لتحقيق الحرية و العدالة و المساواة، كما وقع فيها سواهم، و بوجود قوى إقليمية و دولية خبيثة المطامع و كبيرة الإمكانيات، يصبح من السهل استغلال الشخص الشديد التدين، ذي الموروث الثقافي المتدني، و الذي جعلته ظروف القمع و الاستغلال و التهميش أكثر تدن في ثقافته، سواء من ناحية  الثقافة الفكرية و المعرفية منها، أو الثقافة المعاشية، وربما هي الأكثر تأثيرا، و التي تتحدد بمستويات و أساليب و ظروف المعيشة الواقعية،  المجسدة على أرضية الواقع المباشر.. و الذي جعلته تلك الظروف أيضا شخصا شديد النقمة في نفسيته، و يصبح بالتالي سهلا دفع هذا الشخص إلى أقصى درجات العنف، لاسيما إذا استـُغل الدين لإضفاء طابع الشرعية و القداسة على هذا العنف، و توجيه صاحبه لممارسته حسب ما تقتضي مصالح أصحاب المطامع.

   هكذا ينشأ الإرهاب و التكفير ، و الأساس فيه هو القمع و الاستغلال و التهميش، الذين ينتجون القهر و الفقر و الجهل، التي تنتج بدورها اللاعقلانية و النقمة و الحقد، القابلة للاستغلال لإنتاج الإرهابيين و التكفيريين، و تجنيدهم بما يخدم  مستغليهم و مستخدميهم  لتمزيق أوطانهم و شرذمة شعوبهم، و إيقاعهم في أخطر حبائل الشر، و أغلبهم في حالة من انعدام العقل و انمساخ الضمير يتوهم الخير في ما يقترفه من عظيم الشرور.

     و هكذا لإنتاج الإرهاب التكفيري و ما يشبهه، لابد من توفر العوامل التالية:
     1- وجود بيئة شديدة التدين أو الاعتقاد، فشدة التدين أو الاعتقاد يمكنها من حيث المبدأ أن تنتج الشخص ذي العصبية القوية لدينه أو لعقيدته، لكن هذا بحد ذاته من النادر أن يصل إلى درجة تكفير أو تخوين أو تسفيه الآخرين و ممارسة العنف ضدهم، و لكي يحدث هذا لابد من توفر عوامل أخرى ، و هي ما سيتم الكلام عنه في ما يلي.
    2- وجود حالة من الجهل و الأمية الثقافية، وهذه الحالة تتفاقم عادة في أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تحاصر الثقافة و تحارب المثقفين عموما من ناحية، و ناحية ثانية تقلص إمكانيات التثقف و الانفتاح المعيشي بما تنتجه من فقر نتيجة الفساد المتعدد الأوجه المرتبط عموما بالاستبداد، و بما تنتجه من خوف و قلق و توتر دائمين، مما يؤدي إلى تدني الرغبة الثقافية إن لم يقض عليها، و يؤدي أيضا إلى تدني مستويات و ضيق أفق المعيشة، و التي – أي النظم الاستبدادية من ناحية ثالثة- تتحالف عادة مع البنى التقليدية المحافظة، المكرِّسة للثقافة المتخلفة و الحامية لها و تمكـّنها، لتجعلها هي الأخرى سيفا مسلطا على رقاب المثقفين و دعاة الحداثة و التنوير و الانفتاح.
    3- وجود حالة من التوتر النفسي و الإحساس بالنقمة، بسبب القهر و الكبت و الحرمان، وهذه الحالة أيضا تتفاقم تحت وطأة الحكم الاستبدادي و ما ينجم عن سياساته، و في بيئة ضعيفة أو عديمة التدين هذه الحالة كافية لإنتاج الكثير من حالات العنف الإجرامي ، العفوي أو المنظم، الموجه ضد الآخرين عموما، أما في البيئات الشديدة التدين فيمكنها أن نتتج حركات العنف التكفيري.
     4- وجود قوى منظمة قادرة على استغلال حالات التدين الشديد، و الجهل و النقمة، عبر دمجها معا في حالات منظمة موحدة، يتحول فيها التدين الشديد بوجود الجهل و النقمة إلى تعصب ثم إلى حقد و احتقار موجه ضد الآخرين يصلان إلى درجة رفضهم و عدم الاعتراف بحقهم في الوجود، و هذه الحالات تنتج في وجود عقيدة دينية نموذجا تكفيريا، و في عقيدة وضعية نموذجا تخوينيا، و بالطبع تصبح شدة الاعتقاد و العصبية المعتقدية بوجود الجهل و النقمة عاملا إضافيا يضاف إلى العوامل السابقة، ليـُفاقم استعداد الشخص للعنف بما يحمله من رغبة في نصرة الحق ضد الباطل من جهة، و بما يضفيه من شرعية على العنف بحق الآخر بصفته ممثلا للباطل و الشر من جهة أخرى.

  بعد ما تقدم ننتقل إلى السؤال الثاني :
لماذا أصبحنا عربيا في صدارة منتجي الإرهاب؟
نحن كعرب – في المحصلة- شعب كبقية شعوب العالم، و تميزنا بالإرهاب اليوم لا يعود بتاتا إلى أية خصوصية عرقية أو ثقافية خاصة بنا، فالإرهاب يمكن تعريفه بإيجاز أنه عنف وحشي تجاه الغير، و هذا العنف مورس من قبل شعوب شتى عبر التاريخ، و من هذه الشعوب من هو في الصدارة العالمية اليوم.. كالأوروبيين و الشرق آسيويين، و منها من ما يزال رازحا تحت نير التخلف كما هو الحال في بعض المناطق الإفريقية، فالأوربيون – مثلا- منذ مطلع عصر نهضتهم و حتى اليوم خاضوا صراعات دامية فيما بينهم و مع سواهم، استغلت فيها العوامل القومية و الدينية بأعنف الأشكال، و كثيرا ما ترافقت بإبادات جماعية، كما حصل مع بعض الطوائف كطائفة "الكثاريين".. و  مع السكان الأصليين في أمريكا و أوقيانوسيا و سواهما، و صولا إلى الحربين العالميتين الأعنف في تاريخ البشرية،  و  هذه مجرد أمثلة، لأن الحديث يطول كثيرا إن تطرق إلى تاريخ العنف الأوروبي، أما بالنسبة لأمريكا فيكفي أن نتذكر مواصلتها لإبادة من يسمون بـ "الهنود الحمر".. و بقصفها لليابان بالقنابل النووية، و اليابانيون أنفسهم اقترفوا قبيل الحرب العالمية الثانية و خلالها الكثير من الجرائم ضد الإنسانية بحق جيرانهم الصينيين و الكوريين و سواهم، أما إفريقيا، فمن منا لا يتذكر مذابح الهوتو و التوتسي في أواخر القرن الماضي التي أودت بحياة مئات الآلاف!
  ألا يمكننا وصم كل تلك الجرائم بـ "الإرهاب"؟
   هذا العنف الإجرامي كان دائما مرتبطا إما بقوى ذات مصالح، أو ببيئات متخلفة، و ما نسميه اليوم "إرهابا" في منطقتنا العربية لا يخرج عن هذا السياق، فهو مرتبط بتخلفنا من ناحية.. و بمصالح القوى الإقليمية و الدولية من ناحية ثانية!
   و فيما يتعلق بشقه الأول، نحن حتى اليوم ما نزال نعيش خارج عصرنا في معظم مناحي حياتنا الفكرية و العقائدية و الاجتماعية، و لم نتمكن بعد من تخطي ماضينا، و هذا لا يعني أن هاذ الماضي متخلف بالمطلق، إنه ماض من حيث المبدأ كماضي غيرنا من الشعوب، و فيه ما كان إيجابيا، و فيه ما كان سلبيا، لكنه بالمفهوم الزمني أصبح متخلفا بالقياس إلى واقع العصر الحاضر، و هذا ينطبق على ماضينا و ماضي غيرنا، علما بأننا  و على مدى فترة طويلة من هذا الماضي .. كنا في لحظتها نتقدم على من هم اليوم في قمة هرم التطور العالمي، أي الأوروبيين.
   لقد تزامنت النهضة الأوروبية تقريبا مع انهيار الحضارة العربية الإسلامية، و ذاك الإنهيار لعبت فيها أسباب داخلية كالصراعات الداخلية على السلطة و الصراعات المذهبية و الشعوبية المعلنة و غير المعلنة دورا أساسيا من ناحية.. كما لعبت العوامل الخارجية ممثلة بالغزوات الأجنبية المستمرة دورا مماثلا في القيمة،  و في الوقت الذي أعطى فيه العربُ الأوروبيين أفضل ما لديهم من المنجزات الحضارية.. مما شكل أحد أهم أسباب نهضتهم، لعب الأوربيون دورا معاكسا في موقفهم من كل نهضة عربية، وكانوا وراء إجهاضها، ثم تبعهم الأمريكان على نفس النهج، بدءا من إجهاض تجربة محمد علي على يد كل من بريطانيا و روسيا المتحالفتين ضده، و  ما رافق ذلك من خذلان فرنسا – الحليف المزعوم- له، إلى سايكسبيكو التي أجهضت الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، إلى غرس إسرائبل في قلب العالم العربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية و إجهاض حركات التحرر الوطني العربية و مشاريع الوحدة القومية و التحديث و التطوير، و ما تبع ذلك من تقاسم للهيمنة بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي  على المنطقة، إلى الانقضاض على "الربيع العربي" و دفعه بشكل شبه كامل خارج مسارات التغيير نحو الأفضل، المفروض به أن يسير فيها، ليسير في مسارات الاقتتال الطائفي و العرقي و التقسيم و التدمير.
  عندما نهضت أوروبا كانت الحركات النهضوية الأوروبية تخوض صراعا متكافئا على جبهة واحدة ضد القوى التقليدية في مجتمعاتها، و قد تمكنت هذه الحركات من حسم معركتها، أما القوى النهضوية العربية، فهي مع كل محاولة تقوم فيها.. تجد نفسها في معركة غير متكافئة على جبهتين مع كل من القوى التقليدية الداخلية و مع التدخلات الأجنبية و ما تملكه من قوى عاتية،  و هذا ما يجعلها تخسر المعركة في نهاية المطاف.
   نعم.. يمكننا ببساطة ربط نمو الإرهاب في بلادنا بما لدينا من تخلف، و يمكننا تحميل وزر هذا التخلف لأنظمة الحكم العربية، و ما تمارسه من قمع و تسببه من فساد، و لكن يجب ألا ننسى أن هذه الأنظمة و القوى التي تقف وراءها هي أيضا تنتمي بدورها إلى بيئتنا المتخلفة، لتكون المنتــَج الرئيس لهذا التخلف، و الضامن المباشر لاستمراره، أما هذا التخلف فهو لا يعود إلى غلبة "قوى التخلف" في مجتمعاتنا نتيجة أسباب ذاتية خاصة، بل يعود بشكل أساسي إلى التدخلات الخارجية الوازنة، التي عبر تدخلاتها تكون دوما سندا قويا.. و حاسما لغلبة هذه القوى التخلفية على قوى التقدم!
  و اليوم ما تزال اللعبة مستمرة، و نمو ظاهرة الإرهاب يعود بشكل أساسي إلى تردي الأوضاع على الساحة العربية على كافة الصعد، و للحكومات العربية دورها الأكبر في ذلك، لكن القوى الإقليمية و العالمية بعلاقاتها المباشرة و غير المباشرة مع هذه الحكومات.. سواء تحالفت معها أو تصارعت معها، و بالدعم اللامحدود الذي يقدمه العديد منها لإسرائيل، هي الأخرى جد مسؤولة  عن حالة التردي المزرية التي  سقطت فيها المنطقة، و لكن هذا يبقى دائرا بشكل أساسي في فلك خدمة المصالح الخارجية، و يمكننا القول أن هذه القوى تلعب لعبتها بشكل تجّهز فيه البيئة العربية لتكون منبتا غزيرا للإرهاب، ثم  تعود لتجني ثمار هذا الإرهاب،  و توظفه في استثمارات شتى، و اليوم مثلا تستغل قضية "الإرهاب"، وبدقة أكثر "الإرهاب الإسلامي"، في الغرب المأزوم  لتكون الغطاء الذي يغطي على ما في المجتمعات الغربية من تناقضات حادة، لاسيما على الصعد الاقتصادية و الاجتماعية، وهذه سياسة تقوم على مبدأ التغطية على الأزمات بافتعال أزمات أكبر منها، و لذا لا بد من "فزاعة الإرهاب الإسلامي" ذات الخطر العالمي الرهيب، الذي يجعل كل المشاكل الأخرى في الغرب بالمقارنة معها ثانوية.
  هذا عن ناهيك عن استغلال الحركات في تصفية الحسابات بين أصحاب المصالح الإقليمية كإيران وتركيا و إسرائيل، و العالمية كأمريكا و أوروبا و روسيا و الصين.
  الإرهاب لا يرتبط حصريا بأية عوامل عقيدية أو عرقية، و لكن هذه العوامل يمكن أن تستغل في صناعته من أدنى الحدود إلى أكبرها عندما تتوفر الظروف  المناسبة، و الإرهاب اليوم أصبح صناعة، و سوق استثمار لخدمة مصالح القوى المختلفة المتخالفة، و هذه الظاهرة، و إن كنا لا نستطيع اليوم التخلص منها، فيمكننا مع ذلك المساهمة في التصدي لها و الحد من خطورتها، بفهمهما فهما صحيحا و كشف الأسباب و المسببات الكامنة وراءها.. و الغايات التي تسخـّر لخدمتها، و بالعمل على نشر الفكر الحديث القائم على كل من العق و العلم، و بالسعي لتطوير الواقع الاجتماعي على شتى الصعد.
*
هذا المقال منشور على مجلة
حزيران 2017





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق