فهرس المحتويات

السبت، 30 نوفمبر 2019

الصراعات الطائفية، بين عصبية المعتقد والانتماء، وبؤس الواقع



رسلان عامر






*
هذه المقالة تبحث في مشكلة العنف الطائفي، وتحاول أن تبين علاقة هذا العنف بالعوامل الطائفية المحض، الخاصة بطبيعة الطوائف، والمتعلقة بمعتقداتها وتاريخها وتقاليدها وعلاقاتها؛ وبالعوامل العامة المتعلقة بظروف البيئة البشرية التي تنتمي إليها الطائفة، وتأثير كل من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية فيها، إضافة إلى دور المؤثرات والتدخلات الخارجية في ذلك.
وتركز على أهمية دور كل من العوامل المجتمعية العامة، والعوامل الخارجية، وعلى وجوب عدم الاقتصار بالنظر إلى هذه المشكلة في إطار طائفي محض منعزل عن محيطه،
وعلى أساس ذلك تتم محاولة تلمس بعضا من ملامح الحل ومقتضياته في خطوطها العريضة.
*



الصراعات الطائفية هي اليوم في العالم العربي من أكبر الأخطار التي تهدد الحاضر والمستقبل، وهي تسبب خسائر بشرية واقتصادية فادحة، وتترك آثارا كارثية على كافة الصعد، فما هي طبيعة هذه الصراعات وأسبابها، وكيف يمكن الوقاية منها؟!

1-    ما هي الطائفية:
إن أبسط ما نـُعرّف به الطائفية هو أنها الانتماء المدرك والمعترف به إلى طائفة، والطائفة هي جماعة من الناس تنشأ في الأصل بالاجتماع على مذهب ديني محدد، ثم تنمو وتتماسك وتتمايز عن سواها، فيصبح لها شخصيتها الخاصة كجماعة، وتمتلك روابطها الداخلية الخاصة بين أعضائها، من علاقات وتقاليد وأعراف، وما شابه، ومع مرور الزمن يصبح لديها شكلها التنظيمي المستقر، وتاريخها الخاص، وتجمعاتها السكانية، وتتبلور هويتها، وتتطور روحها الإنتمائية ووعيها الذاتي، لتمتلك كل المقومات الأساسية الخاصة بالجماعة البشرية، ويصبح لديها مصالحها العملية وسياستها العلائقية مع الغير بصفتها كجماعة.
وخلاصة القول، الطائفة هي "جماعة بشرية" تتكون على أساس معتقدي، ثم تنمو وتتطور اجتماعيا في ما يتعدى حدود هذا المعتقد، وسمة النمو الاجتماعي وتخطي الأصل المنشئي هذه هي سمة عامة عند كل أشكال الجماعات البشرية.
ومن المهم التمييز بين الطائفة والمذهب، فالطائفة هي بنية أو فئة بشرية اجتماعية تنشأ على أساس رابطة العقيدة، وهي أشبه ما تكون بالقبيلة، التي تنشأ كجماعة بشرية على أساس رابطة الدم، أما المذهب فهو نسق فكري أو إيماني متكامل من المعتقدات والآراء، التي ينشئها شخص أو مجموعة أشخاص في الدين أو الفلسفة أو العلم أو الأدب أو السياسة أو سواها، وقد يبقى هذا المذهب نظريا، وقد يتبناه عدد قليل أو كبير من الناس، فإن حدث هذا في السياسة مثلا سمي هؤلاء حزبا أو حركة، أما في الدين فيسمون طائفة.
والطائفية بحد ذاتها هي ظاهرة طبيعية في الاجتماع البشري، كالقومية، وهي ليست شرا بطبيعتها، لكن الشر يتأتى من نمو التعصب والتطرف في الطائفية، مثلما يمكنهما أن ينموا في القومية، ليصلا إلى درجة ممارسة العنف، أو التسبب بالصراع، وهذا عموما لا يرتبط بعوامل محض إيمانية وانتمائية حصرية بالطائفة، بقدر ما يرتبط بعوامل عامة ذات طبيعة اجتماعية وسياسية، ترتبط بفواعل داخلية وخارجية تؤثر في البيئة البشرية التي تنتمي إليها الطائفة، كما سنرى لاحقا.

2-    الانتماء إلى الطائفة:
الطوائف نوعان، مغلقة، وهي التي ينتقل فيها الانتماء من الآباء إلى الأبناء بالوراثة حصريا؛ ومفتوحة، وهذا عموما النوع الغالب، وهي التي -إضافة إلى ما تقدم- تقبل وافدين جدد من خارجها على أساس معتقدي.
أما قضية الولاء الشخصي للطائفة ودرجته - وهي تختلف بين شخص وآخر- فهي مرهونة إما بالإيمان بالعقيدة التي تتبناها الطائفة، أو بحس الانتماء الجمعي للطائفة كجماعة أمّ، أو بكليهما معا، وهذا هو الغالب؛ ولكن ليس من النادر أن نجد أشخاصا يحافظون على انتمائهم إلى الطائفة رغم ضعف إيمانهم بمعتقدها، بل وحتى تلاشيه، وهنا يتخذ الانتماء طابعا اجتماعيا محضا، وتحافظ الطائفة على أهميتها للفرد بصفتها جماعة بشرية اجتماعية.

3-    أهمية الطائفة:
سواء حافظ الفرد على ارتباطه بطائفته من منطلق معتقدي أو منطلق جماعوي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، وهو لا يستطيع أن ينشأ ويتكون إنسانيا إلا في مجتمع إنساني، وهذا المجتمع هو الذي يعطي الشخص صورته وهويته البشرية، وفي البنى التقليدية، يغلب على المجتمع الطابع الطائفي أو القبلي، وفي مرحلة أكثر تطورا، يسوده الطابع القومي أو الوطني، وهذه الأشكال تتقاطع عادة عبر سلم أوليات، يحدده مدى النضج الاجتماعي والثقافي في البيئات البشرية، فتكون الأولوية للطائفة والقبيلة في المجتمعات البدائية والتقليدية، فيما يحتلها الوطن والأمة في المجتمعات الحديثة العصرية.
وللطائفة بالنسبة للفرد أهمية متعددة الجوانب، منهما ما هو عملي ونفعي، ومنها ما هو روحي وثقافي.
فمن الناحية العملية الفردية، لا يستطيع الفرد بمفرده أن يؤمن كل المتطلبات والضرورات المعيشية المتنوعة إلا بوجود الجماعة، وهذا عائد إلى مسائل كيفية وكمية في الإمكانية والقدرة، فمن ناحية الكيف لا يستطيع الفرد أن يحوز كل المهارات المختلفة الضرورية، كأن يكون فلاحا  وبناء وخياطا وطبيبا ومعلما كفئا، وهلما جرى بنفس الوقت، ومن الناحية الكمية، فهو إن حاز بعضا من المهارات المتنوعة المختلفة، فلا يسمح له الوقت والجهد بممارستها جميعها، والأهم من ذلك، أنه ثمة أعمال لا تكفي فيها المهارة الفردية مهما كانت عالية، فمثلا أن يكون الشخص معمارا كفئا، لا يجعله قادرا وحده على بناء دار له.
أما من الناحية الروحية والثقافية، فكل القيم والمثل والمبادئ الإنسانية العليا، والنشاطات الإنسانية الراقية كالعلم والفكر والدين والفن وما شابه، التي يحس بواسطتها الإنسان بإنسانيته، ويعبر عنها من خلالها، لا يمكن أن تتم إلا بوجود الجماعة.
في البيئات البدائية، تكون الجماعة – أو المجتمع- مؤطرة عموما في حدود القبيلة أو الطائفة.
أما في العالم المعاصر، فيمكن من خلال المجتمع الحديث المتجاوز للأطر الطائفية والقبلية أن تتحقق كل من الضرورات العملية والنفعية، والروحية والثقافية، كليا أو جزئيا، فالمجتمع العصري، وما يترافق به من دولة حديثة، يمكنها أن يكونا البديل، للطائفة أو القبيلة، بشكلهما التقليدي.
 لكن واقعيا، ما تزال غالبية مجتمعات العالم حتى اليوم تتدرج بين درجات من التقليدية والحداثة، مما يبقي مساحات مختلفة لكل من الطائفة والقبيلة تنيط بهما أعدادا مختلفة أيضا من الوظائف المذكورة أعلاه، ناهيك عن وجود وظيفة أساسية لا يمكن للمجتمع والدولة الحديثة فيها أن يكونا بديلين للطائفة، وهي الوظيفة الدينية، التي لا يمكن أن تتم في مجتمع تقليدي أو عصري بدون وجود "جماعة المؤمنين"، أي "الطائفة"، وهذه الوظيفة حتى في المجتمع الحديث تختص بها الطائفة، وفي كثير من الأحيان تقتصر عليها، في إطار توافقي بين الطائفة وهذا المجتمع، الذي يستوعبها كمكون توائـُمي من مكوناته.

4-    التعصب الطائفي و أسبابه:
يمكننا وصف التعصب بأنه غلوّ موغل في تقدير أمر أو شيء خاص ومعزّته والثقة به وتفضيله، مقترن عادة بموقف معاكس من سواه.
وبهذا المعنى يمكننا القول أن التعصب الطائفي هو غلو شديد في الانتماء والولاء للطائفة يتمادى في تعظيمها و تبجيلها، وينعكس بالعكس على سواها من الطوائف، وإن تفاوتت الدرجات أحيانا.
وهذا النوع من التعصب هو الأكثر شيوعا، ولكن ثمة نوع آخر من التعصب لا يكون أساسه تعظيم الذات، وما يقترن انعكاسيا به عادة من تحقير و كره للغير، بل يكون مبعثه الأصلي هو كراهية واحتقار محدد لطائفة معينة، وهذا النوع من التعصب، هو حالة من حالات الفوبيا، وهو عادة أكثر تحديدا في من يتعصب ضده، فالطائفة المتعـصَـب ضدها  تكون عادة محددة، ومقترنة بصورة مستقبحة، وقد يكون ما فيها من قبح حقيقيا، أو مضخما، أو مزيفا، والغالب هو التضخيم والتزييف.
أما بالنسبة للتعصب للطائفة الخاصة، فهو وإن كانت له نتيجة نهائية واحدة تقريبا، وهي  العصبية المغالى بها من قبل الفرد تجاه طائفته، فأسبابه تتعدد، فقد يعود التعصب إلى سبب إيماني يقوم على ثقة مفرطة في صواب مذهبها وبطلان مذاهب غيرها؛ وقد يكون السبب في ذلك روح الانتماء الجماعي الشديدة التي تتشابه هنا مع عصبية الانتماء القبلي، وفي أجواء من شدة المحبة للـ"ذويّة" والاعتزاز بها، يصبح كل ما يخصها هو بامتياز الأنبل والأرقى والأفضل، وبالمقابل تضمحل أو تتلاشى هذه الصفات الرفيعة عن كل ما يتعلق بالغير؛ وقد تكون المنفعة المادية أو المعنوية المرتبطة بالطائفة أو كليهما معا هي السبب، فالمصلحة تؤثر في مواقف الناس بشكل واع وغير واع، وما أكثر ما يختلف الناس على مصالح، ويكون كل منهم واثقا ثقة كافية بأنه صاحب الحق؛ كما يمكن أن يكون السبب في التعصب ردة فعل قوية على أخطار خارجية تهدد كيان الطائفة أو مصلحتها.
وعلى أرض الواقع غالبا ما تجتمع في تكوين الشخصية المتعصبة أسباب التعصب كلها أو بعضها، وهي عموما متناسبة عكسا مع انفراج النفسية وانفتاح العقل، وهذان بشكل عام من مزايا المجتمعات المستقرة اجتماعيا والمتقدمة ثقافيا.

5-    من التعصب إلى العنف:
في الأحوال العادية تتناسب نسبة المتعصبين في كل طائفة عكسا مع درجة رقي ثقافتها الدينية والاجتماعية الخاصتين، وثقافة المحيط الاجتماعي الذي تنتمي إليه في حالة المجتمعات التعددية، ومع ذلك فسواء كانت نسبة المتعصبين قليلة أم كبيرة، فنسبة ليست كبيرة منهم تكون في الأوضاع الاجتماعية المستقرة مستعدة للقيام بالعنف الفعلي على أساس طائفي محض.
هذه النسب تتغير لصالح التعصب الطائفي والعنف المرتبط به في حالة وجود دعاية طائفية تحريضية منظمة، فهي عادة تزيد نسبة المتعصبين ودرجة تعصبهم، و تزيد تبعا لذلك نسبة المستعدين للعنف منهم، وفي بيئة منغلقة متدنية الثقافة، تتفشى فيها الأمية والجهل، يكون التعصب في الأحوال العادية مرتفعا في الكمية والكيفية، ويمكن للدعاية الطائفية التحريضية هنا أن تلقى صدى واسعا بدرجة ما، وتؤدي إلى قيام أعمال عنف طائفي قد تقوض حالة الاستقرار، التي تكون في مثل هذه البيئات قلقة وهشة من أصلها.
 لكن الغالبية الكبرى من حالات العنف والصراع في المجتمعات، الطائفية منها وغير الطائفية، تكون أسبابها أوضاع داخلية متدهورة على صعد شتى، وتدخلات خارجية مغرضة تستغل هذه الأوضاع، بل وتساهم في صنعها من الأساس.
وهكذا لا يمكن فصل التعصب والعنف الطائفيين عن بقية أوضاع وظروف بيئتهما، الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعن المؤثرات الخارجية التي تتعرض لها هذه البيئة.
فالحالات الاجتماعية البائسة، بمعزل عن أي حضور أو نشاط طائفي تعصبي، يمكنها أن تبلغ في كثير من الأحيان درجات من التوتر والتناقض كافية لحدوث الانفجار والانهيار في البنية المجتمعية والسياسية القائمة، وهنا لا مفر من حدوث الصراع بين مريدي التغيير الجذري، والمصرين على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، أو بين المختلفين على أشكال التغيير أنفسهم؛ كما يمكن أيضا للصراع أن يحدث في هذه الحالة في المجتمعات التعددية بين المكونات السكانية الفئوية من طوائف وأعراق بسبب تضارب المصالح أو المواقف، أو بسبب وجود حساسيات و توترات مسبقة بين هذه المكونات مرتبطة بماض علائقي سيء لم تعالج آثاره بالشكل اللازم، أو بسبب سياسات معتمدة كانت تقوم على التمييز والتهميش الطائفي أو العرقي، أو التلاعب بالأوراق الطائفية والعرقية لأغراض معينة.
وفي مثل هذه الظروف المتردية، وما يرافقها من خوف واضطراب وقلق وفقدان أمان وفقدان ثقة بالغير، بل وحتى بالذات، وضغوط معيشية، تضعف كثيرا مناعة الناس النفسية والفكرية و الأخلاقية، ويصبحون أكثر استجابة للتسييس والتجييش الطائفي والعرقي، وسواهما، وأكثر استعدادا للصراع والعنف.
وهكذا يمكن لقوى مدبرة داخلية أو خارجية أن تستغل هذه الأوضاع بما يخدم أغراضها، وتؤسس لصراع طائفي أو عرقي، أو تدفع صراعا سياسيا أو اجتماعيا ممكنا في الاتجاهات العنصرية، الطائفية أو العرقية، بل ويمكن حتى أن تدفعهما إلى مستويات الإجرام الجماعي الضد إنساني، كالمجازر والعنف الجنسي والتهجير.

6-    إذا فـُهم الداء، عـُرف الدواء:
كل عنف أو صراع له آثاره الوخيمة على الناس ومجتمعاتهم، من قتل وتشويه وتهجير وتدمير، وأسوأ أشكال العنف والصراع، هي الصراعات العنصرية، بأنواعها الطائفية أو الدينية أو القبلية أو العرقية أو القومية، فهي عادة تنتشر انتشارا واسعا، وتطال بأقسى درجات العنف أعدادا غفيرة من الناس، الذين لا ذنب لهم سوى الانتماء الطبيعي العفوي لهذه الجماعة أو تلك.
وإذا ما تأملنا بعقلانية في الصراعات العنصرية، مع التركيز على الصراعات الطائفية منها في عالمنا العربي كونها الأكثر انتشارا بسبب غلبة التعدد الطائفي على التعدد العرقي في معظم المناطق العربية، فسنجد أن أي صراع عنصري يرتبط بالعوامل التالية:
- وجود بيئة ذات تعددية طائفية أو عرقية.
- تدني مستويات الوعي والعلم والثقافة والتربية.
- تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهيمنة الفساد على قطاعاتها.
- رسوخ ذهنية الملة والعرق على حساب عقلية الوطن والأمة، وانتشار التحريض والتجييش الطائفي بشكل خاص، والعرقي أيضا بدرجة كافية.
- وجود تدخلات خارجية مغرضة.

فإذا اعتبرنا أن هذه هي أسباب الداء، فعلى أساس هذا يجب أن نبحث عن الدواء، وهذا يقتضي منا في طليعة ما يقتضيه:
- رفع مستويات التعليم ونشر العلم والارتقاء بثقافتنا العامة وثقافتنا الدينية مع التركيز على القيم والأخلاق الإنسانية، وعلى الاعتراف بالغير واحترام التعددية.
- محاربة كل أشكال وأساليب الدعاية التعصبية بكل الوسائل الممكنة.
- تحديث قوانيننا بما يعزز حماية حقوقنا و حرياتنا الإنسانية، ويحقق العدالة بين كافة أبناء مجتمعاتنا.
- تطوير نظمنا وأساليبنا في الحكم والقيادة والإدارة والتخطيط، بما يضمن الارتقاء بأدائنا السياسي والاقتصادي ويرفع مستويات المعيشة لدينا على الصعد المختلفة.

فإن فعلنا ذلك، نكون قد أقفلنا الكثير من الأبواب، التي تدخل عبرها بشكل مباشر أو غير مباشر مسببات العنف والصراع، الطائفي منه، وغير الطائفي، وعندها ستأخذ الأوضاع بالتغير الإيجابي، ويتحول التعدد الطائفي والعرقي في مناطقنا من مصدر كبير للمخاطر والمشاكل الجسيمة، إلى حالة من الغنى والتعدد الثقافي الإنساني الحضاري.

*


 \3  آب\ 2017
هذه المقالة منشورة في العدد 30 من مجلة الحوار-ربيع 2018





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق