فهرس المحتويات

الخميس، 21 نوفمبر 2019

طارت وزة.. وبقي القن



رسلان عامر


*

يكثر الكلام اليوم على الساحة السورية عن عملية الفساد الأكبر التي تم الكشف عنها في الآونة الأخيرة، التي تبلغ وفقا لما يتم تدواله على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية800  مليون دولار، أي ما يعادل 350مليار ليرة سورية بسعر الدولار الحالي، والتي كان بطلها، هزوان الوز، وزير التربية السابق، الذي شغل أيضا مناصب أخرى، مثل مدير مديرية تربية دمشق، ومدير التعليم المهني والتقني في وزارة التربية ورئيس فرع نقابة المهندسين في دمشق.
وقد أكدت بعض وسائل الإعلام، ومن بينها "روسيا اليوم"، أن قرارا صدر من وزارة المالية بالحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لهزوان الوز وزوجته الأوكرانية إيرينا الوز،وقد ورد اسم الوز في رأس قائمة تتضمن أسماء 87 آخرين ممن شملهم قرار الحجز، إضافة إلى زوجاتهم.
أما الوز نفسه فوفقا لبعض هذه الوسائط فقد هرب إلى أوكرنيا.
إضافة إلى ذلك فقد شككت بعض وسائل الإعلام بحجم المبلغ الذي بلغته عملية الفساد هذه، فيما تحدثت بعض الوسائل الموالية عن أن ما يحدث يأتي في سياق حملة منظمة لمكافحة الفساد الذي تنامى أثناء الأزمة، في وقت كانت "الدولة" مشغولة عن مكافحته بما هو أكثر أهمية، أي "مكافحة الإرهاب"، فيما فسرت مواقع معارضة ما يجري بأنه يأتي كحملة يقوم فيها النظام المفلس اقتصاديا بمصادرة أموال بعض كبار "رجال الأعمال السوريين" لتأمين بعض العائدات لخزينته.

في هذا المقال لن نخوض في هذه الملابسات، التي لا يمكن الحصول فيها على أية حال على معلومات موضوعية مؤكدة، ولن نركز أيضا على أية تفاصيل في ما يتعلق بهذه العملية بحد ذاتها، فرغم كبر المبلغ الذي يجري الحديث عنه، ورغم حدوثه في مؤسسة يفترض فيها أن تكون أحد معاقل نشر الأخلاق والفضيلة في المجتمع، هي وزارة التربية، فالحادثة بحد ذاتها ليست طارئة ولا غريبة ولا تحمل أية استثنائية مميزة، وهي لا تشكل أكثر من حلقة من مسلسل الفساد المستمر منذ عقود في سوريا، الذي بات يضرب جذوره بشكل عميق وواسع في الدولة والمجتمع.

ما يهمنا هنا بشكل رئيس التركيز على الكيفية التي ما يزال يتم بها التعامل مع هذا النوع من الأحداث، وهذا سنصنفه في أربعة محاور:
-    الأول على الصعيد السياسي، حيث لا يخفى على عاقل أو مثقف أن العلاقة بين الفساد والاستبداد هي في كل زمان ومكان علاقة جوهرية وثقى، فالاستبداد ينتج الفساد ويحتاجه، والفساد يحتمي بالاستبداد الذي يمنع فضحه ومحاربته، وبما أن الميدان السياسي في سورية هو خط أحمر، فليس مسموحا قطعا القيام بأية إشارة إلى أية علاقة بين النظام السياسي القائم والفساد أو إلى أي دور لهذا النظام في استفحال الفساد، ومن يفعل ذلك يعاقب بعنف على فعلته هذه، الذي يضع فيها نفسه تلقائيا في خندق معاداة النظام الحاكم.
-    الثاني على المستوى الإعلامي، وهو بدوره إعلام سلطوي تابع خاضع، ويستشري في وسطه الفساد، وبالتالي لا يستطيع هذا الإعلام القيام بأية مبادرة فعلية لكشف وفضح صفقات الفساد، فشبكات الفساد المتغلغلة في مؤسسات الدولة، التي صارت لها فيها اليد الطولى، لا تسمح لأي "إعلامي مشاغب" أن يتجرأ على التطاول على حصون فسادها، فإن تجرأ وفعل ذلك، فهو من يلاحق ويعاقب عقابا شديدا بدلا من ملاحقة الفاسدين ومعاقبتهم، وهذا الأمر ليس جديدا، وذرائع العقاب كثيرة، مثل "المساس بهيبة الدولة أو إضعاف الروح الوطنية أو معاداة النظام الاشتراكي أو تعكير صفو الأمة" وهلم جرى...
-    الثالث على المستوى المحاسبي، الذي يتضمن قطاعي الشرطة والقضاء، وما قيل أعلاه عن حال القطاع الإعلامي ينطبق عليهما بدقة، فهما بدورهما قطاعان مشلولان، وليسا أكثر من أدوات سلطوية تخدم مصالح السلطة وتنفذ أوامرها.
-    الرابع على المستوى الأخلاقي، وهنا عادة تردّ رسميا كل عمليات الفساد إلى عوامل فردية، لتصور كعمل من أعمال ذوي النفوس الضعيفة، ومثل هذا التبرير هو نفسه ما كان يبرر به كل ما يحدث من تعفيش؛ أما على المستوى غير الرسمي فما زالت تنشر وترسخ دعاية مفادها أن سبب كل الفساد المستشري، هو فساد ضمائر وأخلاق الناس وتربيتهم، يعني بمختصر الكلام، الشعب هو المذنب في كل أشكال الفساد، لأنه ببساطة شعب "قليل الأدب، فاسد الضمير، وسيء التربية"، وهكذا تصبح "الدولة" بريئة، بل وضحية، والجاني هو الشعب، والمسؤول الفاسد، سواء كان صغيرا أم كبيرا، هو فاسد، لأن أسرته التي أنتجبته لم تحسن تربيته، إما لأنها بدورها فاسدة أخلاقيا أو فاشلة تربويا.

هذا الأسلوب المفروض فرضا في التعامل مع الفساد، لا يمكنه بتاتا أن يكون غريبا على منظومة حكم يستشري فيها ويهيمن عليها الفساد، وتختار ممثليها بأسلوب فاسد يقوم على الولاء والمحسوبية، وهي بطبيعتها الاستبدادية، لا يمكنها إلا أن تكون "مفرخة للفساد"، الذي انتشر وترسخ "بـفضلها" في أوساط المجتمع، ولذلك ليس غريبا أيضا أن نجد أغلبية العوام، وأشباه المثقفين وأبواق السلطة يتكلمون عن الفساد كما يراد من قبل أرباب الفساد للكلام عن هذا الفساد أن يتم، فممنوع الربط بين الفساد والحالة السياسية الاستبدادية القائمة، وممنوع الحديث عن الفساد بوضعه المؤسساتي واستشرائه في كل مفاصل الدولة، وممنوع العمل على كشف وفضح الفاسدين، ومسموح فقط الكلام عن الفساد كحالات فردية مرتبطة بفساد أخلاقي شخصي، سببه الأساسي فساد أخلاق الشعب الفاسد.

أما في ما يتعلق بقضية "الوز"، وهي قضية ربما تتضح ملابساتها أكثر في الأيام القادمة، فآخر ما يمكن تصديقه فيها هو أنها جزء من حملة منظمة حقيقية لمحاربة الفساد، أي كما وصفتها روسيا اليوم في ‏16‏/09‏/2019 بأنها "أول الغيث قطرة"، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن بتاتا للفساد أن يحارب نفسه، والأرجح أن ما يجري يمكن أن يندرج في إطار إجراءات براغماتية سياسية، وهي ليست أسلوبا جديدا، وفيها تقوم السلطة بالتضحية ببعض رؤوس الفساد لكي تظهر بمظهر السلطة المسؤولة والملتزمة قولا وفعلا بمحاربة الفساد.

على أية حال سقط أحد الفاسدين، لكن هذا السقوط لا يستحق أن يقال عنه  أكثر من أن "وزة طارت.. لكن العش أو القن ما يزال باقيا"، وما أضخم وأوسخ وأخطر عش الفساد في سورية!

*
 16\9\2019
منشور في مجلة جيرون
https://geiroon.net/archives/158985



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق