فهرس المحتويات

الجمعة، 18 نوفمبر 2022

مفهوم الشعب في الفكر الديمقراطي الحديث

مفهوم الشعب في الفكر الديمقراطي الحديث

رسلان عامر

 

 

 

إن تعريف الديمقراطية بأنها "حكم الشعب"، يقتضي أن يكون مفهوم الشعب نفسه محددا وواضحا في هذا التعريف، وذاك ما قد يبدو الأمر عليه عموما، فعند الحديث عن الديمقراطية كنظام حكم يكون الشعب فيه هو الحاكم، يتم الحديث وكأن مصطلح "شعب" يحمل "مفهوما" موحدا يفهمه ويتفق عليه الجميع.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة وهذا الوضوح، كما سنبين لاحقا، وهذا أمر كبير الأهمية، لأن الفهم غير الصحيح لمصطلح "الشعب" يقودنا حتما إلى نتائج مغلوطة في فهم الديمقراطية نفسها.

 

تعود جذور مصطلح "ديمقراطية" إلى اليونانية القديمة "Demokratia"، وهو نحت مركب من مقطعين مأخوذين من كلمتي "demo"([1]) وتعني "شعب" و"kratos"([2]) وتعني "سلطة"، وبذلك يكون المعنى الحرفي لكلمة "ديموكراتيا" المركبة هو "سلطة الشعب"، وقد عرفت أثينا ومدن يونانية أخرى قديمة أشكالا خاصة من حكم الشعب، فالديمقراطية الأثينية -مثلا- بدأت بالظهور في أواخر القرن السادس قبل الميلاد تقريبا، وكانت ديمقراطية مباشرة، أي غير تمثيلية، فقد كان كل من يحق لهم التصويت والانتخاب يصوتون بشكل مباشر على الأمور المطروحة للنقاش واتخاذ القرارات، كما كان هؤلاء الناخبون أنفسهم يتداورون على شغل المناصب الحكومية في المدينة، بحيث يشغل كل واحد منهم منصبا معينا لمرة واحدة ولمدة عام فقط؛ ولكن هذه الديمقراطية كانت النساء فيها غير مسموح لهن لا بالتصويت ولا بشغل المناصب الحكومية، وكذلك كان حال سكان المدينة ذوي الأصول غير الأثينية الذين كانوا يعتبرون أجانبا مقيمين حتى وإن كانت إقامتهم فيها تمتد إلى أجيال، وكان يطلق عليهم تسمية "Metics"؛ كما أنها كانت ديمقراطية تقبل بالعبودية، ولم يكن مسموحا للعبيد فيها قطعا بأي دور ديمقراطي، وعندما كان العبد يحرر، فهو لم يكن يعتبر مواطنا، بل "أجنبيا" مقيما([3]).

وكما نرى فمفهوم "الشعب" أو "الديموس" الأثيني القديم كان مفهوما مدينيا، أي خاصا بسكان مدينة أثينا حصريا، ومع ذلك فهو لم يكن يشمل جميع هؤلاء السكان في منظوره الديمقراطي حينها، ففيه لم تكن تدخل النساء، ولا السكان من أصول غير أثينية، ولا العبيد، وكان يضم فقط الرجال الأثينيين البالغين الأحرار ذووي الأصول الأثينية.

 

في عالمنا الحديث تغيرت الأمور بشكل جذري عما كانت عليه في أيام ديمقراطية أثينا، فالدولة اليوم ليست دولة- مدينة، ولكنها دولة أمة، والديمقراطية أيضا إما تطبق على مستوى هذه الدولة في بعض البلدان، أو تطرح بما يتناسب معها بمفهومها هذا في سواها من البلدان، والشعب هو شعب هذه الدولة، وحيث تطبق أو تطرح الديمقراطية لا تستثنى منها النساء، والمواطنة لم تعد مرتبطة حصريا بالأصول، وفي بلدان كثيرة الأجانب المقيمون صارا بإمكانهم أن يصبحوا مواطنين وفقا لآليات قانونية محددة.

لكن مع ذلك، فهذا لا يعطي جوابا دقيقا عن السؤال عن "مفهوم الشعب الحديث"!

فما هو هذا المفهوم، وهل يختلف بين الديمقراطية وسواها؟

 

في تعريف "الشعب" يرد في قاموس "المعاني" الإلكتروني العربي: «الشعب: الجماعة الكبيرة ترجع لأب واحد، وهو أوسع من القبيلة. الشعب: جمهور، جماعة كبيرة من الناس تسكن أراضي محدّدة وتخضع لنظام اجتماعيّ واحد وتجمعها عادات وتقاليد وتتكلَّم لسانا واحدا»([4]).

فيما تقول موسوعة ويكيبيديا: «الشعب هو أيّ جمع من الأشخاص المعتبرين كلية واحدة، وهو مصطلح يستخدم في السياسة والقانون للإشارة إلى جماعة أو مجتمع مجموعة عرقية أو أمة، أو للإشارة إلى الجمهور أو عامة الناس في نظام سياسي، وعلى هذا النحو هو  في قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي وكذلك القانون الدستوري»([5]).

وكما نرى يلتقي التعريفان في الربط بين مفهوم "الشعب" والجماعة الكبيرة من الناس، ولكن فيما تشير ويكيبيديا إلى اعتبار هذه الجماعة "وحدة كلية" (وهذا، أي "الوحدة الكلية" أو "الوحدة الذاتية"، أمر جوهري لا يستقيم  بدونه الأمر في أية تسمية دلالية لأي موجود من الموجدات)، ينوه قاموس "المعاني" إلى عناصر مشتركة مهمة تجمع هذه الجماعة كالأرض والنظام السياسي والعادات والتقاليد واللسان، إلا أننا نجد أنه، وهو ليس القاموس العربي الوحيد الذي يفعل ذلك، يعطي لمفهوم الشعب أصلا عرقيا وينسبه إلى أب واحد، وهذا بالطبع ليس قصورا في نظر هذه القواميس نفسها، لأنه يعكس بشكل موضوعي النظرة التي كانت سائدة لدى العرب القدماء إلى مسألة "الشعب"، وهذا المفهوم المرتبط بالأصل بالعرقي الواحد للشعب لم يكن حالة عربية استثنائية، وكان له حضور تاريخي مديد في ثقافات الشعوب المختلفة، واستمر بقوة حتى منتصف القرن العشرين تقريبا لدى بعض الأمم الأوروبية العريقة، وما يزال له الكثير من الأنصار المختلفين في عالمنا الراهن في أمم شتى من الذين يركزون على الأصل العرقي المشترك لأممهم، رغم ما حققه الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي والقانوني من فتوحات حديثة كبرى على هذا الصعيد.

أما المعجم الفلسفي المختصر الصادر في الاتحاد السوفييتي في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، ففي تعريفه للشعب يقول: «الشعب في المدلول المألوف للكلمة- مجموع سكان، أو أهالي، هذه أو تلك من الدول والبلدان؛ وفي المعنى العلمي- فئة السكان، التي تكون معنية، في هذه أو تلك المرحلة من مراحل التاريخ، بتطوير المجتمع إلى الأمام، والتي تلعب الدور الحاسم في إقامة نظام أكثر تقدما. ويتألف الشعب من فئأت اجتماعية وطبقات مختلفة، يتفاوت وضعها في المجتمع»([6]).

وما لا شك فيه أن ما يقوله هذا المعجم حول المدلول المألوف الذي تتم فيه المطابقة بين مفهوم "الشعب" و"مجموع السكان" في بلد ما يعكس واقع الحال عموما، وكذلك كلامه عن تألـّف الشعب من فئات وطبقات متفاوتة الوضع في المجتمع، أما المعنى العلمي الذي يتحدث عنه ويربطه بالفئة المعنية بالتغيير والتطور، فيمكن القول عنه أنه مفهوم ذو منظور إيديولوجي، لكن مع ذلك فهذا أمر بالغ الأهمية، ذلك أنه رغم وجود المدلول الشائع لكلمة "شعب"، فالأسئلة الهامة تبقى مطروحة حول الأمور الدقيقة المرتبطة بهذا المدلول، لتختلف الإجابة عنها باختلاف المرجعيات الفكرية والإيديولوجية والمعتقدية، فعندما نقول أن مفهوم "شعب" يدل بشكل عام على مجموع سكان أو أهالي دولة أو بلد ما، فالسؤال التفصيلي سيطرح عن وضع "المكونات المختلفة لهؤلاء السكان من حيث الهويات الدينية والقومية والعرقية وسواها"، وهل يعتبر مفهوم "شعب" متضمنا لما يتضمنه فعليا الواقع السكاني من طوائف وقوميات وأعراق وقبائل وسواها من الجماعات والهويات البشرية، أم أنه مفهوم تجاوزي يضم كل أولئك السكان بصرف النظر عن هوياتهم وجماعاتهم تلك؟ وعدا عن ذلك.. ماذا عن السكان غير الأجانب الذين يعيشون في بلد ما، ومع ذلك لا يُعتـَرف بهم كمواطنين فيها لسبب أو لآخر، كما كان حال العديد من الأكراد في سوريا؟

 

هذه الأسئلة بالتأكيد تختلف الأجوبة عنها بين مذهب سياسي وآخر بدرجات كبيرة، وبطبيعة الحال لا يمكن الفصل بين المذهب السياسي ونظامه الحاكم ومجتمعه ودرجة تطور هذا المجتمع.

فالمجتمعات التقليدية، تكون فيها الدول غالبا هشة ومضطربة، رغم أنها عادة ما تكون دولا قمعية تسلطية، وهشاشتها ترتبط بشكل رئيس بطبيعتها الذاتية كدولة قمعية تسلطية، يقترن قمعها وتسلطها بدرجات مماثلة من الفساد، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ترتبط هذه الهشاشة بقدر مماثل بعدم استقرار وتوتر أوضاع مجتمعات هذه الدول التي غالبا ما تكون منقسمة بحدة إلى أعراق أو قبائل أو جماعات دينية مختلفة أو طوائف في نفس الدين الواحد، وبالطبع فالعلاقة بين الناحيتين جدلية!

وفي مثل هذه الدول يكون هناك غالبا "سكان"، ذوو انتماءات وهويات مختلفة، والعلاقة بينهم غالبا ما تكون متوترة بدرجة تتناسب طردا مع حدة هذه الانتماءات والهويات بحد ذاتها، كما وترتبط بشكل مماثل مع فساد الدولة القائمة، وفشلها في معالجة أمور هذه الهويات والانتماءات وسواها من الأمور الاجتماعية الجوهرية الأخرى!

فإذا نظرنا إلى هؤلاء السكان من خلال مصطلح "شعب"، مع التركيز هنا على كلمة "مصلح"، لأننا ما نزال حتى الآن في حالة يغيب عنها المفهوم الموحد لهذا المصطلح، فماذا سنجد؟

ما سنجده أننا نستطيع فقط في حالة كهذه استخدام مصطلح "الشعب" إما بشكل يتطابق مع مصطلح "السكان"، بما هم عليه من انقسام فئوي، وغياب للوحدة، أو استخدامه بشكل "مجازي" أكثر منه "واقعيا" ليدل على حالة "شبه الشعب" القائمة فعليا في حالة "شبه الدولة"، القائمة بدورها في هذه المجتمعات، والتي تكون دولتها عادة عبارة عن شكل من أشكال "السلطنة" أو "الحكم السلطاني"، ولا ينطبق عليها فعليا مفهوم "الدولة" الحديث، كما وتكون هي نفسها تجمعات أو مجمعات لجماعات  مختلفة من البشر الذين لم يندمجوا بعد في وحدة اجتماعية حقيقية يمكن فعليا تسميتها "مجتمع"، وكل جماعة منهم تربط بين أعضائها عصب تقليدية كالدين أو الطائفة أو العرق أو اللغة، وليس رابطة إنسانية عليا تقوم على وحدة الانتماء والصالح الإنسانيين كما هو الحال في الاجتماع الحديث في المجتمعات العصرية المتقدمة.

وفي مثل هذا النمط من المجتمعات التقليدية، ودولها، أو بالأدق سلطناتها، يكون مفهوم الشعب عادة ملتبسا بسبب قصور الفكر السياسي نفسه من ناحية، وبسبب الوضع الاجتماعي القائم على أرض الواقع من ناحية ثانية، وفي النتيجة يأتي مفهوم الشعب فيها ليتماهى مع "الجماعة الهويوية التقليدية" أو "الجماعة العصبوية"، فيأخذ مفهوما عرقيا أو قوميا أو دينيا أو طائفيا، وهلم جرى، وبذلك، وعدا عن عدم قيامه كمفهوم على أساس فكري سياسي سليم، حيث أنه يعتمد على أساس عصبوي تصبح "العصبة الهويوية" فيه هي القاعدة التأسيسية له، فهو أيضا يعكس حقيقة الحالة الفعلية القائمة ويكرسها، ليدل على جزء فقط من سكان الدولة، عادة ما يكون هو "الأغلبية العصبوية"، فيما يصبح سواه أغيارا، أو يكون عليهم أن يغيروا هويتهم، أو يكونوا موضع انتقاص أو شبهة أو اضطهاد، ولا يكون بمقدورهم أن يكونوا أعضاء متساوي العضوية مع سواهم في هذا "الشعب العصبوي" ومتمتعين بنفس الحقوق أو الامتيازات التي يتمتع بها من ينتمون فيه إلى نفس "العصبة"، رغم أن هذه الحقوق والامتيازات نفسها تكون  عادة محدودة وقليلة حتى لهؤلاء أنفسهم بسبب سواد الديكتاتورية والفساد، ومن الأمثلة على ذلك الرفض أو الانتقاص الذي تعامل به "الهوية الكردية" في البلدان ذات التوجه "القومي العروبي"، والتمييز بين المسيحيين والمسلمين في العديد من الأمور في البلدان المتشددة إسلاميا، والامتيازات التي يحظى بها المنتمون إلى طائفة ما أو قبيلة أو ما يشبه ذلك ما في البلدان التي تحكمها طغم طائفية أو قبلية وما يشبهها، وحتى الأنظمة الحزبية التي تنشأ في مثل هذه الدول، ويفترض فيها أن تكون أكثر تقدما من الأنظمة التقليدية، هي الأخرى تبقى متأثرة إلى حد كبير بذهنية "العصبة الناجية"، وتتحول أحزابها إلى ما يشبه القبائل أو الطوائف أو الملل!

 

في الفكر الحديث، المرتبط بالاجتماع والسياسة الحديثين، الأمر يختلف بشكل جوهري، ففيه يولى اهتمام جوهري لمسألة "وحدة الشعب"، ولكن بنفس الوقت يولى اهتمام مماثل لمسألة عدم ربط هذه الهوية بـ "العُصبة"، بل إعادة تأسيسها على أسس حديثة تأتي في طليعتها "المواطنة" و"الحقوق الإنسانية"، وبذلك ينشأ لدينا مفهوم جديد للشعب، ينفصل فيه الشعب عن كل أشكال "العُصب" و"الفِرق" و"الجماعات والهويات العصبوية والفرقية"، ويصبح الشعب بحد ذاته وحدة اجتماعية مستقلة لا تتألف من أية عصب أو فرق، بل تتجاوزها لتقوم على رابطة جديدة هي رابطة المواطنة، ويصبح "الشعب" فيها هو "شعب المواطنين" أو أمة "المواطنين"، وبذلك يصبح هناك ارتباط جوهري بين الشعب والدولة، فـ "عبر المواطنة تعطي الدولة للشعب هويته، وعبر الديمقراطية يؤسس الشعب دولته"، ومثل هذه الدولة هي الدولة الوطنية الحقيقية، لأن مفهوم "الوطن" فيها يصبح واقعيا، ومتمثلا بالعالم الإنساني الحقيقي الذي يحيا الإنسان فيه حياة إنسانية كريمة، يستطيع فيها أن يحقق وينمي إنسانيته بشكل دائم.

 

بذلك نكون قد وصلنا إلى مفهوم "الشعب" الديمقراطي، المرتبط بالديمقراطية نفسها بما هي "حكم الشعب"، فالشعب في المفهوم الديمقراطي الحديث، لا يمكن اعتباره قطعا حالة اجتماعية مركبة من بنى فئوية أخرى كالطوائف والأقوام وما شابه، فهذه "حالة تجزئة"، وهي تتناقض بشكل جوهري مع "الوحدة" اللازمة للشعب لكي يكون شعبا له ذاتيته وشخصيته وهويته الخاصات، التي بلاها لا يكون شعبا، بل يكون في أحسن أحواله "تجمع عُصب متهادنة"، وبدون مثل هذه الوحدة الشعبية الحقيقية لا يمكن فعليا إقامة ديمقراطية، فمن المستحيل أن يكون هناك "حكم شعب" في وقت الشعب فيه هو "شعب مجزأ"، وفاقد للشخصية والذاتية اللتين لا يمكنهما أن تكونا مجزئتين، وفي مثل هذه الحالة ستصبح الديمقراطية المزعومة إما مغالبة ومنافسة على السلطة بين أجزاء هذا الشعب المزعوم، أو ستكون غطاء وقناعا لـ "ديكتاتورية الأغلبية"، وفي المحصلة لن يكون هناك في الحقيقة لا شعب ولا ديمقراطية ولا دولة ولا وطن، وكل ما سيكون موجودا منها سيكون مزيفا أو مشوها، فالشعب الحقيقي والوطن الواقعي والدولة الحديثة والديمقراطية الصادقة.. كلها تبدأ من تلك اللحظة وتلك النقطة اللتين تبدأ فيهما الهوية الوطنية بالصيرورة أعلى وأقوى من الهويات العصبوية الدنيا، وتصبح بذلك وحدة الشعب، ومن ثم شخصية الشعب محققتين واقعيا، فيما، في الحالة المعاكسة، يكون الشعب "شعبا مع وقف التنفيذ" أو "شعبا افترضيا" بقدر فقدانه للوحدة الهويوية التي ترتبط جدليا مع الوحدة الذاتية، وهذا ما يكون الحال عليه، في حال كانت هوية الفرقة وانتماء الفرقة هما الأقوى.

 

لذا علينا أن نعي جيدا الهدف الذي نسعى إليه والمفاهيم الجوهرية المرتبطة به، وعندما نقول في سوريا وسواها من الدول العربية أن "الدولة الوطنية الديمقراطية" هي الحل، فعلينا أن نعي تماما الارتباط الجوهري والمصيري التام والمتبادل بين مفاهيم "الدولة والوطنية والديمقراطية" من ناحية، وبينها وبين مفهوم "الشعب" الصحيح من ناحية ثانية، وعندما نتحدث عن "شعب سوري"، فعلينا أن ندرك تماما أننا لا نقصد شعبا يتكون من الجماعات العصبوية المختلفة الموجودة في سوريا، بل عن "شعب سوري ذي هوية سورية حديثة" ترتبط بشكل جذري بـ "الدولة الوطنية السورية الحديثة"، وتتألف من مواطني هذه الدولة بصفتيهم الفردية والشخصية، وليس بصفتهم أبناء أية أديان أو أقوام أو طوائف أو أعراق أو ما شابه.

ذاك بالطبع لا يعني قطعا أنه لزام علينا أن نلغي الأديان والأعراق وسواها من أشكال الانتماء والاعتقاد، بل يعني وضعها في موضعها الصحيح والاعتراف بها كحقوق إنسانية من حقوق الإنسان التي يصبح ضمانها من واجبات الدولة الديمقراطية الحديثة، فهذه الحقوق تضمن للإنسان حرية الاعتقاد والاجتماع والتنظيم وإنشاء الجماعات، والحفاظ على الانتماء والثقافة الجماعويين الخاصين، بشرط ألا يؤثر أي من هذا بتاتا على عمل الدولة واستقرار وسلامة المجتمع.  

وهكذا يمكن للشعب منطقيا وعمليا أن يمتلك الشخصية المستقلة المالكة لذاتها والمتسقة مع ذاتها، والقادرة على القيام بدورها الصحيح في عملية الحكم، وتصبح الدولة في مأمن من أية تدخلات أو ضغوطات من قبل أية قوى أخرى تعرقل أو تحرف أو تفسد عملها، وبالطبع الوصول إلى هذا المستوى من التقدم ليس أمرا سهلا بتاتا، وهو لا يتحقق بخطوة واحدة وخلال وقت قصير، فحتى المجتمعات المتقدمة في العالم المعاصر ما يزال عليها أن تقطع الكثير لتتقدم في هذا المضمار، أما المجتمعات الباحثة عن حل كما هو الحال في منطقتنا العربية، فعليها قبل كل شيء تحديد المسار الصحيح، وإلا فستضيع الجهود في المسارات الخاطئة، ويصبح الحل عندها أبعد وأصعب! 

 

وبناء على ما تقدم يمكن القول أن "مفهوم الشعب الحديث" هو مفهوم للشعب فيه استقلاليته التامة عن البنى والهويات الفئوية تماما كاستقلال وزارة الثقافة مثلا عن المصانع والمعامل التي تنتمي تماما إلى نطاق آخر غير الثقافة، ففي مفهوم الشعب الحديث، الطوائف والأعراق والقبائل وما يشبهها تبقى خارجا، بنفس الشكل الذي تبقى فيه خارج، أو يجب منطقيا أن تبقى فيه خارج، المدارس والجامعات والنقابات والمؤسسات الإنتاجية والحرفية والمؤسسات الرسمية الأخرى وما شابه، وبالطبع فلا جدل هنا في حق هذه البنى، أي الطوائف والأعراق والقبائل وما يشبهها، بالوجود، ما دام هناك من يريد أو يحتاج وجودها، وهذا حق خاص لهؤلاء الناس، وهذا هو بالضبط الميدان الذي يجب أن يكون فيه موقع ودور هذه البنى، التي يجب أن تبقى بعيدة عن أنطقة الشعب والدولة والمجتمع، ومتربطة فقط بنطاق الفرد وحقوقه.



[1] - The Concise Oxford Dictionary, Sixth Edition 1976, Oxford University Press, Pg. 272

[2] - The Concise Oxford Dictionary, Sixth Edition 1976, Oxford University Press, Pg. 237.

[3] - روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، ترجمة  نمير عباس مظفر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمّان- 1995، ص 44-45.

[4] - تعريف وشرح و معنى الشعب بالعربي في معاجم اللغة العربية معجم المعاني الجامع، https://cutt.us/LPdfo

[5] - People – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/People

[6] - المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة  توفيق سلوم، دار  التقدم، موسكو- 1986، ص 272.

*

المقالة منشورة في مجلة "صور"

مفهوم الشعب في الفكر الديمقراطي الحديث

*

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق