فهرس المحتويات

الخميس، 30 نوفمبر 2023

الليبرالية أخذت مكان الدين

ألكسندر دوجين: "الليبرالية أخذت مكان الدين"

سيرجي ماردان يتحدث مع الفيلسوف ألكسندر دوجين حول كيف يعيش الغرب تراجع عصر الهيمنة.

سيرجي ماردان & ألكسندر دوجين

ترجمة رسلان عامر

 


 

سيرجي ماردان: قال رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، أن نهاية حقبة الهيمنة على العالم الغربي قادمة. لقد كنت تتحدث عن هذا لفترة طويلة. الشيء المدهش هو أنهم بدؤوا أيضا في إدراك ذلك؟

ألكسندر دوجين: هذا سؤال صعب حقا. إذا نظرنا إلى تصريحات أذكى المفكرين والفلاسفة في الغرب، وكذلك الشخصيات العامة والسياسية، نجد في المئة عام الماضية أنه كلما كان المفكر أكثر مسؤولية وعمقا ومعرفة، كان المستقبل والحاضر الذي يراه للغرب أكثر كارثية. هنا يمكننا أن نتذكر شبينغلر وهايدغر، فيلسوفي التقليد الألماني، وكذلك العديد من المفكرين الأمريكيين والفرنسيين والإنجليز. أ. توينبي، على سبيل المثال، الذي درس حضارات مختلفة، وتحدث عن الغرب كوطني إنجليزي، أكد أن الدول الغربية في طريقها إلى حالة كارثية للغاية، وكلما كان هؤلاء المفكرون أكثر مسؤولية، زاد تقييمهم النقدي والتشاؤمي للحضارة الغربية، وصار توقعهم لها أكثر كارثية. ومن تقاليد الغرب أيضا، أن تكون متشائما، وأن تفهم التهديدات، وأن ترى أن الهيمنة الغربية في العالم تنتهي، وأنه من الضروري إدراك كمّ الأخطاء والجرائم التي ارتكبها الغرب في التاريخ، وبالتوازي مع ذلك، أن تقوم بالدعاية (وهذه أيضا لحظة مدهشة) للعولمة المتفائلة، بشكل يتجاهل كل الإيقاع المأساوي، والخط الكارثي بأكمله، وجميع الأعمال السمفونية لنقاد الحضارة الغربية من الحضارة الغربية نفسها. والسياسيون والمفكرون في الغرب، الذين ليسوا أعداء للغرب على الإطلاق، يقولون: نحن نسقط، نحن في كارثة، لقد فقدنا الهيمنة والقيادة على حد سواء، ونحن أنفسنا قد بنينا ضد الحضارة. البعض يتكلم، في حين أن البعض الآخر، كما لو أنهم لا يسمعون أي شيء، يغلقون أنفسهم تماما أمام انتقاد عباقرتهم، وأشخاصهم الأذكياء (توني بلير، على سبيل المثال، سياسي لامع إلى حد ما). ويقولون: سنستمر في الحكم، وسنظهر لكم القرن الأمريكي الجديد، والهيمنة الغربية الجديدة، وسنصحح الأخطاء وهذا ما نقوم به بالفعل، ونحن مستعدون لبدء جولة جديدة من العولمة مرة أخرى، وسنشدد قواعد سلوكنا أكثر، وسنتعامل فقط مع من يشاركوننا نظام القيم الجميل الجديد بشكل كامل.

وهذا نوع من التنافر. ويبدو أن نصف الدماغ الغربي يقيم موقفه بشكل نقدي وواقعي، ويحاول إيجاد مخرج، بينما يبدو أن النصف الآخر يعيش وفقًا لبرنامج مختلف ولا يسمع أي شيء على الإطلاق. في بعض الأحيان يتعايش مثل هذا في نفس الوعي. لنلق نظرة على جورج سوروس، في نصف أعماله، يشرح مدى فظاعة الأنظمة الشمولية ومدى أهمية تعزيز الديمقراطية، والمجتمع المفتوح، وكيفية تنفيذ عملية التحول الديمقراطي على نطاق عالمي، وتمويل الثورات الملونة، والإطاحة بالحكومات المرفوضة، أي أنه يقوم بعمل رائع في تقوية مواقف الغرب. وفي الوقت نفسه، يؤكد النصف الآخر من عقله: لقد انهار الغرب، وتحولت أمريكا إلى شمولية، ولم تعد قادرة على حكم العالم، وانهار النظام الاقتصادي الليبرالي وانفجر. وكل هذا يؤكده نفس الشخص.

إذا فهمت أن كل شيء سيء، فأنت بحاجة إلى البحث عن مخرج ما، والانفتاح على النقاد الآخرين، والدخول في حوار. ولكن هنا يحدث العكس. وربما هذا تشخيص، ولكني لا أستبعد أن يكون هذا نوعا من الفصام الحضاري، ونحن نتعامل، إذا جاز التعبير، بصوتين، و في الغرب، هناك صوتان متوازيان تماما لا يستمعان لبعضهما البعض. يقول البعض أن كل شيء ذهب. ويقول آخرون: الآن سنريكم!

سيرجي ماردان: تأكيدا على هذه الأطروحة، أود أن ألفت الانتباه إلى بيان بوريل أمس، وفي نفس اليوم، نـُشرت مقابلة مع بلير، الذي يذكر أن تراجع الغرب يحدث. ليس في سياق "لقد ضاع كل شيء"، ولكنه يصوغ هذا على أنه نوع من المشاكل العالمية التي على المجتمع الغربي في مواجهتها، إما أن يبدأ الصراع، أو أن يتعلم كيف يعيش، ليكون مدركا لنفسه في هذا العالم الجديد. وبعد ذلك يظهر بوريل، أحد المسؤولين الأوروبيين الرئيسين، الذي يغلق عينيه ويصرح ببساطة: "سنبقي العقوبات حتى النهاية، وسوف تعمل بالتأكيد، ويجب أن نتحلى بالصبر"، وهذا يعطي انطباعا بأن هذا الشخص موجود في سياق مختلف تماما.

ألكسندر دوغين: هذه الازدواجية، هذه الثنائية أو الفصام الحضاري، تجلت بوضوح في بداية التسعينيات. حينها ظهر مشروعان، "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صراع الحضارات" لهنتنغتون. وقد قال هنتنغتون: إن الهيمنة العالمية للغرب لن تتوسع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، والغرب لن يسيطر على العالم كله ويخضعه، بل سيبقى حضارة بين الحضارات الأخرى. تحليل رصين وصحيح تماما، ويجهز جميع اللاعبين -الغربيين وغير الغربيين- لدخول عالم متعدد الأقطاب. ثلاثون عاما من فحص الواقع تظهر أن هنتنغتون كان على حق.

وهنا يظهر فوكوياما، الذي يقول: "لا، لا شيء من هذا القبيل، لقد هزمنا الآن آخر عدو رسمي ممثلا بالنظام الشيوعي العالمي، وستكون هناك أيديولوجية واحدة مهيمنة في العالم - الليبرالية. ستطيعها كل الشعوب لأن لا أحد يطرح بديلا، وفي الواقع، ستحدث نهاية التاريخ، ولن يتبقى لخصومنا حجة واحدة، فقد اقترب عصر نظام عالمي ليبرالي غربي عالمي واحد، يسمى العولمة.

مشروعان بدا وكأنهما يقولان: اختاروا، استمعوا إلى المناقشة، تحققوا من الواقع. هل ما قاله فوكوياما مؤكد؟ لم يتم تأكيد أي شيء منذ التسعينيات. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ كل شيء في الانفجار، مثل مستودعات الذخيرة. أي أطروحات عبر عنها فوكوياما في التسعينيات (على الرغم من حقيقة أنه حاول لاحقًا تصحيحها) تنهار اليوم. فكرته الأخيرة كانت أن بوتين قد أعلن التحدي للنظام العالمي الليبرالي، النظام العالمي للمعايير والقواعد التي أصبحت الآن في خطر ويجب حمايتها. مهما كانت أطروحة فوكوياما وأولئك الذين كانوا في موجته على مدى الثلاثين عاما الماضية، فقد انتهت كلها. كل ما فيها خاطئ، ومهما كان ما يدعيه، فكله تدحضه الحياة.

ومع ذلك، فإن جزءا مصابا بجنون العظمة من الهوية الغربية، بما في ذلك المجانين مثل بوريل، يستمر في المطالبة بمزيد من العقوبات ضد روسيا، ويصر على حقوق الإنسان ومجتمع الميم. وأقرب الشركاء لهم، يلمحون لهم بالفعل، بأنه إذا تعامل الغرب فقط مع أولئك الذين يفكرون بنفس الطريقة في جميع القضايا، فسيجد الغرب نفسه داخل حدود  الناتو حصريا، وسيخسر العالم كله عموما، بما في ذلك عدد من الحلفاء في العالم الإسلامي. لكن مع ذلك، فإن جنون العظمة الغربي مستمر... إنه مثل الهوس، أن تستمر، مهما حدث.

في نفس الوقت، إذا أخذنا س. هنتنغتون وكتابه "صراع الحضارات"، فعلى العكس من ذلك، وكل ما قاله هذا المفكر قبل ثلاثين يتم حدوثه. ثلاثون عاما من التأكيد على نصف أطروحة هذه الازدواجية الغربية. وبالمناسبة طور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ذات مرة فكرة "الطريق الثالث"، معتقدًا أن الرأسمالية الكلاسيكية قد تدهورت. وبلير ليس شخصا محدودا بل هو إلى حد كاف مفكر مثير للاهتمام، لكني لست المعجبين الكبار به خصيصا، ويبدو لي أن "طريقته الثالثة" لا يمكن الدفاع عنها تماما، ولكنه، على أية حال، حاول بطريقة ما التفكير بشكل نقدي ومختلف.

وهكذا، يتضح أن خط هنتنغتون تم تأكيده بالكامل، وأن خط فوكوياما قد فشل. ولكن ماذا في ذلك؟ إنها عنزة ولو طارت. أنصار نهاية التاريخ، وإعادة الضبط الكبيرة، كل هؤلاء "الشوابيين، و"منتديات دافوس"، و"السوروسيين" يواصلون تكرار نفس الشيء: "المزيد من العقوبات، فرض عقوبات على الصين، شيطنة روسيا، أعطوا العالم الإسلامي تحذيرا صارما، وضعوا أردوغان في مكانه، أغرقوا إيران في العزلة، وافرضوا الرقابة على منشآت كوريا الشمالية العسكرية"، سيكون  شيء كما كان من قبل، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن هنتنغتون لم يكن موجودا على الإطلاق. والأهم من ذلك هو الشعور بأن لا أحد يقوم بفحص الواقع، ولا أحد يقيّم الطريق الذي نسير فيه. لكن من الواضح لجميع العقلاء في الغرب أن العالم يسير على خط هنتنغتون..

سيرجي ماردان: خطرت ببالي فكرة. ولكن ماذا لو كان هذا التعنت من جانبهم، وعدم انزياحهم عن الطريق الذي اختاروه  هو شبه تدين خاص؟ عاشوه وذهب، ولكن من ناحية أخرى، ظلت أوروبا كما كانت في عصر حرب الثلاثين عاما، حرب المئة عام، الحروب الصليبية، حانقة، لا هوادة فيه ... قارة من الصليبيين المستعدين لتقطيع كلٍ من أنفسهم والآخرين من أجل فكرة.

ألكساندر دوجين: كما تعلم، ربما يكون الأمر كذلك. إذا نظرنا عن كثب، سنجد بالفعل التعصب والهوس والإيمان الديني بالليبرالية والتقدم. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه النماذج لا تعمل، إلا أن جوائز نوبل يتم تسليمها يمينا ويسارا لمؤلفي مفاهيم نمو الاقتصاد الليبرالي العالمي بشكل أسي ومتضاعف، وبعد سنوات قليلة من الحصول على جوائز نوبل، يتبين أن كل شيء عكس ذلك، وكل المؤشرات آخذة في الانخفاض. ومع ذلك، فإن الحائزين على جائزة نوبل يمرون، لكن الدياتة تبقى. الديانة الليبرالية، والشيطانية بمعنى ما ...

سيرجي ماردان: الغرب مهووس والغرب متعصب دينيا، على الرغم من حقيقة أنهم أهملوا الدين.

ألكسندر دوجين: في الواقع، حلت الليبرالية محل الدين. عقائد الفهم الليبرالي: التقدم، والإنسان، والفرد، هذا في الواقع نوع من اللاهوت. ليس له بعد إلهي، لكنه، مثل لاهوت العصور الوسطى، يصر على هذه العقائد والقواعد والأعراف.

في الوقت نفسه، من المثير للاهتمام أن الغرب يكافح الآن عنصريته علنا، وهو يعلن: نحن عنصريون وعلينا التخلص من عنصريتنا. لكن الغرب يسعى للتخلص من عنصريته على وجه التحديد مثل عنصري. وهو يعلن: نحن نناضل - وأنتم تناضلون. نحن نعتذر عن أخطائنا - ويجب عليكم الاعتذار. وبعد ذلك يجب على الجميع قبول هذا الاعتذار كعقيدة مطلقة. وجميع الشعوب، خاصة غير الغربية، شعوب الدرجة الثانية المتخلفة بشكل خاص كما يعتبرونها، يجب أن تقبل هذا كقاعدة واحدة. حتى مناهضة العنصرية الغربية تصبح عنصرية بكل معنى الكلمة، وتصبح مناهضة الفاشية فاشية. الليبرالية تصبح شمولية يبقى جوهرها دون تغيير. هذا، في الواقع، نوع من المركزية العنصرية، حيث المركز هو الغرب وتاريخه الخاص، وحوله الأطراف، حيث يلقي الآن قوته، الاقتصادية، والإعلامية، والتكنولوجية، ويجب على الجميع طاعته بدقة، حتى وإن طلب من الجميع أن يتوبوا عن تجربتهم الاستعمارية. هذه مفارقة، هذا هو أورويل.

في رأيي، كان الجميع خائفين من أن يأتي أورويل، أعني "1984"، قادما من أوروبا الشرقية، من البلدان الاشتراكية. ظاهرة "1984" لم تأت من حيث كان متوقعا. نحن نعيش في عالم ليبرالي شمولي تماما، مع أيديولوجية نازية عنصرية متطرفة تماما، والتي، تماما مثل أورويل، تعلن: الحب كره، الحرب سلام، الفقر ثروة، الثروة فقر، وتفرض هذه المفارقات الأيديولوجية على الجميع بأساليب رهيبة، وإذا كنت لا تعتقد ذلك، فسنقوم "بإلغائك". ومن هنا جاءت ثقافة الإلغاء، وقد أصبحت في كل مكان اليوم.

والغربيون، الذين ما زالوا يحتفظون بعقلهم، مرعوبون مما أصبحت عليه ثقافتهم وحضارتهم. لقد انفصلوا تماما عن كل الواقع، وسقطوا في حالة هوس متعصبة خاصة. وهم يرون أن كل شيء ينهار بالنسبة لهم، وهم يقولون: "لا، إنه لا ينهار، لكنه يصبح أقوى". وهم يرون أنهم يخسرون، ويقولون: "نحن ننتصر". هذا ما نراه في أوكرانيا. لم يعلـّم الغرب أوكرانيا أن تفوز وأن تقاتل وأن تدافع عن مصالحها، بل علمها الهذيان، وبالضبط الهذيان. وهذا هراء شبكة فعال للغاية. عندما تفقد أراضٍ، تقول، كما يقول الأوكرانيون: "لا مشكلة، قواتنا تقف بالقرب من روستوف، وبيلغورود وموسكو ستؤخذ قريبا، ومينسك صارت ملكنا في الواقع".

وكلما قل عدد النجاحات، وزاد عدد الإخفاقات والخسائر، زادت هذه التوقعات. إنه شكل من أشكال الاضطراب العقلي الجماعي، لكنها ليست أوكرانيا فقط. إننا نعتقد أن هذا هو الحال هو في أوكرانيا،  كما هو في جميع أنحاء أوروبا. في إيطاليا يعلن دراجي أنه سيغادر، فيجيبه ماتاريلا بأنه لا يستطيع المغادرة، على الرغم من حقيقة أنه تم طرده ببساطة. السكان لا يدعمون في الواقع ماكرون، و"السترات الصفراء" قد قاتلوه لعدة سنوات، وهو يدّعي: "أنا القائد الأكثر نجاحا". الشيء نفسه يحدث مع شولتز. هؤلاء الحكام يعرضون على شعوبهم اتخاذ إجراءات لا تصدق. لقد فشلوا للتو، وقد كان من الضروري التحدث بجدية مع روسيا منذ البداية، لكن لا أحد رأى هذا كما ينبغي، وهكذا حل الوهم محل الواقع.

سيرجي ماردان: سأقدم هذا التفسير  لسبب تصرفهم بهذه الطريقة. ربما هذا ليس تعصبا حقًا، بل نوعا من العقلانية. لقد وُجدوا طوال الأربعمائة عام الماضية في مفهوم يحكم فيه "المليار الذهبي" العالم بأسره (الآن مليار، سابقا كان أقل بكثير(. عالم أوروبي المركز، أوروبا محاطة بالأطراف، أي المستعمرات، وهي تمتصهم. وكل هذا تم تشكيله، ثم تغير بطريقة ما. لكن في الأساس لم يتغير شيء. انتقل المركز من بريطانيا إلى نيويورك، إلى واشنطن. الآن كل هذا يتكسر. نظام الدولار ينهار، والاقتصاد العالمي يتداعى كظاهرة قد صُممت لإطعامهم، ولكي يأكل هذا "المليار الذهبي" بثلاث حناجر، وكل هذا يتكسر الآن، وهم ليسوا مستعدين لقبول ذلك، لأنه في العالم الجديد، العالم الذي لا يتمركز حول أوروبا، سيكون الأمر محزنا للغاية. إنهم فقط يرفضون قبول الواقع، هذا كل شيء.

ألكسندر دوجين: أنت محق تماما. علاوة على ذلك، فإن رؤيتهم تنهار. ذات مرة كانت رؤية عنصرية مفادها أن هناك "بيضا" يُنظر إليهم على أنهم "من الدرجة الأولى"، و"صفرا" هم "الدرجة الثانية"، و"سودا" من "الدرجة الثالثة". عنصرية خالصة.  وبالمناسبة هذا كان يؤمن به الليبراليون غالبا في القرن التاسع عشر. كانت الليبرالية الإنجليزية والبريطانية عنصرية تماما. يُعتقد أحيانا أن العنصرية جاءت إلى أوروبا مع هتلر. لكن العنصرية جاءت إلى ألمانيا نفسها من إنجلترا، ومن إنجلترا البريطانية الليبرالية، ومن خلال كتابات تشامبرلين. لم يكن الألمان عنصريين حتى جاءهم هذا التأثير الخبيث والوحشي لليبراليين الإنجليز. الليبرالية ظاهرة عنصرية في جذورها.

وهكذا ظهرت فكرة: أبيض، ثم أصفر، ثم أسود. بالطبع، تم التخلي عن هذا في القرن العشرين. لكن ماذا لدينا اليوم؟ المركز، شبه المحيط، المحيط. شمال غني، منطقة وسيطة، جنوب فقير. حضارة، بربرية، همجية. كل هذه التصنيفات، كل هذه التسلسلات الهرمية ظلت دون تغيير. الغرب في المركز، وحوله أولئك الذين يتبعون الغرب، أي رابطة الديمقراطيات، وفي الأطراف جميع الدول المارقة.

وهذا هو المكان الذي ينشأ فيه هذا الشعور الغريب، عندما يكون العالم مختلفًا تماما بالفعل ويتم تطبيق كل هذه النماذج العنصرية عليه، هذا هو اليأس. من الواضح أن حياة الغرب ستكون أسوأ إلى حد ما، ولذا على الغرب السعي إلى التكيف، وإيجاد مخرج ما، وبناء نموذج جديد. وهم يعتقدون أنهم مرنون للغاية، وذوو حيلة، وهم يسرقون العقول من جميع أنحاء العالم، إذا، فليجعلوا هذه العقول تجد كيف يمكن للغرب أن يعيش في عالم متعدد الأقطاب. ربما ستكون هناك طريقة بدون استعمار، بدون هذه الليبرالية الشمولية الكاملة.

بالمناسبة، عن ترامب. عندما جاء ترامب، سارت أمريكا نفسها في هذا الاتجاه، وطـُرح السؤال كيف تبقى قوة قوية في الظروف عندما تكون هناك أقطاب أخرى. هذا ما تحتاج إلى التفكير فيه. إنه واقعي. وهو يحتاج إلى النظر اليقظ والعودة إلى الذات، والنهج الصحي بصراحة هو كيفية إيجاد مكان للغرب والحضارة الغربية في سياق الحضارات الأخرى الراسخة والناهضة، الروسية والصينية والهندية والإسلامية. كيف يتعامل الغرب مع هذه الحضارات، وكيف يضع نفسه، وكيف يطور اقتصاده، وكيف يبني علاقات؟ إنها ليست مهمة سهلة، لكنني أعتقد أنها قابلة للتنفيذ.

ولكن من أجل حلها، تحتاج إلى طرحها. وهنا نرى بوريل، وهنا نرى بايدن، ونرى سوروس وشواب، أمامنا مجرد مجانين. هم شائخون ليس بالسن حتى، هم شائخون في وعيهم. إنهم يريدون الحفاظ على الهيمنة الغربية بأي ثمن، وعلى الرغم من رحيلها، إلا أنهم ما زالوا يتحدثون عنها. هذا هراء خرف. لقد تقاعد أولئك الناس منذ فترة طويلة، لكنهم يستمرون في ارتداء ملابسهم والخروج إلى أعلى الدرج كل صباح ويعطون المهام لشخص ما. رأيت شيئا مشابها في الثمانينيات: كان لدينا مثل هذا الجار. في البداية كان قياديا عالي المنصب، ثم تقاعد وأصبح مجنونا تدريجيا، وفي كل يوم كان يذهب إلى العمل وهو يصيح، ويقف في أعلى الدرج ويصرخ على مرؤوسيه. لم يكن الأمر مضحكا، لقد كان شريرا.

يذكرني بايدن بمثل هذا القيادي السوفياتي المتأخر الذي فقد عقله، وهو يصرخ في مكان فارغ. لا أحد يسمعه، فقط زوجته بشكل دوري، وعندما تصبح حالته مؤسفة، تعيده إلى الغرفة.

سيرجي ماردان: فليعطوه حبة دواء.

الكسندر دوجين: الغرب في مثل هذه الحالة. يتعامل مع عالم غير موجود. الغرب مريض عنيف. في الوقت نفسه، لديه أسلحة نووية، ولا يزال بإمكانه فرض عقوبات، ويزود المهووسين الأوكرانيين بأسلحة بعيدة المدى، ويولد المجانين الذين يصدقونه. الأمم الشابة السليمة والسوية أمام أعيننا، تحت تأثير الظلامية الخرف هذا، تتحول إلى وحوش. هذا كله ليبرالية.  الليبرالية عدوى. إنها في الواقع تشوه الناس. يُقال للإنسان: كل شيء مسموح به، أنت فرد، وليس لديك هوية جماعية، فيصدق ذلك، وينقاد إليه، ويفقد كل حالة إنسانية، ويتحول إلى نفس المهووس مثل هذا الجزء الغربي من البشرية.

لكني أعتقد أن خلاص الغرب سيأتي من داخله.

 

*

الحوار منشور على مجلة الفيصل، بعنوان:

ألكساندر دوغين: كلما كان المفكر الغربي أكثر مسؤولية وعمقًا، كان المستقبل الذي يراه للغرب أكثر كارثية

*

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق