فهرس المحتويات

السبت، 25 فبراير 2017

الدين للفرد و الدولة للجميع

الدين للفرد و الدولة للجميع
رسلان عامر




   
 

عند طرح مقولة "الدولة العلمانية"، كثيرا ما تختلط بعض الأمور الجوهرية في مفهوم هذه الدولة، فيتم اختزالها إلى حالة الفصل بين الدين و السياسة فقط، و يصبح الخلط أكبر عند الكلام عن الديموقراطية، التي لا يرى فيها البعض أكثر من صندوق انتخابات تمرر عبره مشيئة "الأغلبية"، و هنا لا بد من التركيز على هذا المصطلح و تمييزه عن مصطلح "الأكثرية"، لما في ذلك من معنى كبير.
  الدولة العلمانية هي من الناحية المفهومية فكرة تقوم على استقلال الدولة كبنية عليا للاجتماع البشري عن كل ما دونها من بنى أخرى، مثل الطائفة، و العشيرة، أو النقابة أو الحزب.. و هلما جرى من هذه البنى الفئوية، و العلاقة بينها و بين مواطنها مباشرة و ليس فيه أي وسيط فئوي، و هي من حيث الهوية مستقلة بهويتها الوطنية الصرف حتى عن الأمة ذات الهوية القومية، كما أنها مستقلة عن أشكال الانتماء العرقي و الديني أو السياسي أو الحرفي و ما شابه، فالانتماء إليها يتم على أساس إنساني و وطني محض!
  أما الديموقراطية، فهي حالة ثقافية تبنى عليها الممارسة السياسية، و هي تقوم أساسا على فكرة الاعتراف بالآخر كصورة أخرى من صور الوجود الإنساني متساوية مع الصورة التي نحن عليها، و هذا يقتضي قبول الآخر من حيث المبدأ كـنظير تام على مستوى الذات المجردة مهما اختلف على مستوى الظاهرة المشخصة، و هذا المبدأ مستقل عن الكيف و الكم في الموقف من الآخر، المساوي بحد ذاته كآخر!
 و في ما يلي سنتتطرق ببعض التفصيل لهذه الأفكار.

   - الدولة العلمانية كبنية اجتماعية عليا: 
   لا تلغي الدولة العلمانية البنى الفئوية القائمة في فضاء بشري ما، و لا تتدخل فيها، كما أنها لا تؤسس نفسها على أية تقاطعات معها، و لا تسمح لتلك الفئات بتاتا بالتدخل في شؤونها بصفتها فئات و جماعات، بل تسعى بشكل جوهري لتجاوزها جميعا، و تأسيس نفسها على أسسها الخاصة المختلفة عن كل الأسس الفئوية الأخرى، و تقيم علاقتها مع الفرد الداخل في عداد مواطنيها على هذه الأسس فقط، بمعزل عن علاقة هذا الفرد مع أية فئة أو فئات موجودة في نفس الفضاء البشري المشترك، و بهذا لا تنتج الدولة العلمانية نفسها كبنية اجتماعية فئوية، بل كبنية عليا تتجاوز كل فئوية، و تتعامل مع الإنسان من حيث المبدأ كإنسان، و تقيم علاقتها معه على أسس الحق الإنساني الضامن لحقوق كلٍ من الفردِ و الكلِ من المواطنين، و تجسد ذلك عبر مؤسسات تبنى فقط على معيارية الكفاءة.

   -الهوية الإنسانية هي الهوية التي تقوم عليها الدولة الإنسانية:
   مدنية الدولة و استقلالها عن كل أشكال الدين هي شرط لازم للدولة العلمانية، و لكنه قطعا ليس كاف، فهناك دول يمكن أن تحقق شرط المدنية و المؤسساتية الحديثين، و لكنها تضعنا أمام إشكالية كبرى في ما يتعلق بعلمانيتها، و كمثال على ذلك يمكننا ذكر " الدولة القومية " على غرار تركيا الطورانية، و "الدولة الإيديولوجية" على غرار الاتحاد السوفييتي، فتركيا الطورانية هي دولة فئوية بالمفهوم القومي، و لا تعترف بقومية الأكراد مثلا، الذين لا تقبلهم كأكراد، بل تحولهم إلى "أتراك جبل"، أما الاتحاد السوفييتي فرغم أمميته، قد كان دولة فئوية بالمعنى الإيديولوجي، و قد كانت فيه الإيديولوجيات و المعتقدات غير الشيوعية إما جد محاصرة أو ممنوعة، و هنا يجب الحذر من إساءة فهم التنوع، و هو مبدأ أساسي في الدولة العلمانية بما هي حكما دولة ديموقراطية، فهذا التنوع يقوم على فكرة حياد الدولة إزاء كل التنوعات الموجودة في فضائها، أما التنوع القائم على المحاصصة فيلغي الدولة كبنية مستقلة، و يحولها إلى شركة فئات.
  الدولة العلمانية الحقيقية هي دولة وطنية تماما، و لكنها بتاتا ليست دولة قومية، و الوطن فيها يفهم كاتحاد إنساني مؤسس على القيم و الحقوق الإنسانية المحض، و الوطنية بهذا المفهوم الاجتماعي الإنساني هي هوية الدولة العلمانية.

   -الدولة العلمانية تقوم على الانتماء الإنساني الصرف:   
   كل فئة أخرى ينتمي إليها الإنسان.. تعبر عن انتماء جزئي، و هو فيها أساس قيام عملية الانتماء، فالدم هو أساس الانتماء العرقي، و الإيمان أساس الانتماء الديني، و الحرفة أساس الانتماء النقابي، و الإيديولوجيا أساس الانتماء السياسي، و هكذا.. أما الدولة العلمانية، فالإنسانية فيها هي أساس الانتماء الإنساني إليها، و هذه حالة من التعالي إلى الكلية الإنسانية، المعيـّنة بالإنسان كإنسان، فوق كل التعينات الجزئية الدنيا القائمة على حالة من حالات الإنسان أو صفة من صفاته، و بناء على هذا الانتماء الإنساني الصرف، تشتق الدولة حقوقا إنسانية شاملة، و تقرها متساوية لكل مواطنيها بصفة كل منهم كإنسان متساوي الإنسانية مع سواه.

   -الفرد و الدولة في النظام العلماني:
   هنا العلاقة مباشرة، و الفرد ينتمي للدولة فقط بصفته كمواطن، و ليس بصفته ابن هذه القبيلة أو الطائفة، أو العضو في هذه النقابة أو ذاك الحزب، و ما يشبه ذلك، فالانتماء للدولة هو انتماء مستقل كليا عن أي انتماء آخر، و هو يتم بصورة فردية محض، و كما أن الانتماء العرقي لا معنى له بالنسبة للعضوية الحرفية، و الحرفة لا دور لها في بـُنـُوّة القبيلة، فكذلك هو الحال بالنسبة للعلاقة بين كل فئة و بين الدولة، و الانتماء الفئوي هو شيء خاص بالفئة نفسها، و ليس له معنى بالنسبة للدولة العلمانية، و بالتالي لا معنى هنا للكلام عن أية أكثرية أو أقلية قادمة من مصدر فئوي من خارج بنية الدولة، فهذا مخالف جذريا لأساس قيام الدولة الحقيقية، و من يسعى لإقحام الوقائع الفئوية أيا كانت في بنية الدولة، فهو يسعى ليس إلى إقامة دولة، بل إلى إقامة نظام أو كيان شبه سياسي هش، يقوم على مبدأ المحاصصة أو المغالبة و ما شابه، و هذا الكيان هو دوما كيان غير مستقر مهدد بالتوترات و النزاعات الداخلية التي تمنعه من التطور.. و كثيرا ما تفتته أو تدمره، أما الدولة الحقيقية فهي كيان مستقر قادر على الاستمرار و التطور! و هي لا يمكن إلا تكون دولة شعب حقيقي، مدنية تتجاوز كل الأشكال الفئوية.

   -بين العلمانية و الديموقراطية:  
   هل يمكن للدولة العلمانية أن تكون دولة ديكتاتورية؟ 
    الجواب ببساطة لا!
    فالدولة العلمانية هي عقد بين كل مواطنيها يضمن للجميع حقوقا متساوية على كافة الصعد، و بالتالي لا يحق لأحد بالمفهوم الفردي أو الجماعوي للأحدية أن يستأثر بأي شيء يخل بمبدأ المساواة، و هذا ينطبق بالطبع على الحكم!
   في النظام العلماني يصبح كافة مواطني الدولة شعبا، و هم يحكمون أنفسهم بهذه الصفة، و الشعب المكون من مواطنين متساوين يحكم نفسه بعملية اختيار يشترك فيها كافة المواطنين بالتساوي لاختيار من يملك كفاءة الحكم من بينهم، و يفوضونه بالحكم لمدة محددة و بموجب قوانين محددة، و يحتفظون لأنفسهم بحق رقابته و إلغاء تفويضه إن اقتضى الأمر، و هذه هي الديموقراطية التي تعني "حكم الشعب"!
   و مما تقدم نرى التطابق بين كل من الديموقراطية و العلمانية.
  أما مفهوم الشعب، فهو ليس مفهوما كتليا، أو تجميعيا لمجوعة الفئات التي ينتمي- أو لا ينتمي – إليها أبناؤه! فالشعب علمانيا و ديموقراطيا هو بنية اجتماعية لافئوية عليا، مستقلة بذاتها و عن غيرها من البنى الموجودة في نفس المشترَك البشري، و الانتماء للشعب يتم أيضا بصفة فردية، و لا يمر عبر أية فئة أخرى، فالشعب مستقل إزاء بقية الفئات كاستقلال الطائفة عن الحرفة، و الانتماء إليه انتماء خاص به كالانتماء الخاص بكل منهما!

   -أغلبية أم أكثرية؟
 إن مفهوم الأكثرية في النظام العلماني الديموقراطي هو مفهوم سياسي بحت، و هو مفهوم موقفي و علائقي، و لا يرتبط بأية هوية أو فئة بتاتا، و كل من الأكثرية و الأقلية في هذا النظام هي حالات ظرفية متغيرة، و كثيرا ما تتحول هذه إلى تلك و بالعكس حسب التطورات و التغيرات التي تحدث في المحيط الاجتماعي و ترتبط بكافة العوامل المؤثرة فيه.
  و لذا يمكن الحكم على أية مساعٍ لتمرير أية سياسات تقوم على أساس أكثريات فئوية بأنها عمل لا ديموقراطي محض، ليس فقط بسبب خرقها البالغ للمبادئ العلمانية المتطابقة مع الديموقراطية، و لأنها تخارج مع مفهوم "الشعب الواحد" الجوهري علمانيا و ديموقراطيا، بل لأنها كذلك لا تمتلك بحد ذاتها أية شرعية إنسانية، و كل ما تملكه هو التفوق العددي، الذي يؤدي فقط إلى حالة غلبة في عملية تغالب!
  هذا التفوق العددي لا يستحق تسمية "أكثرية"، فهذا مفهوم وضعي لا يستبطن فكرة الصراع و الغلبة، أما ما يرتبط بالمغالبة و الغلبة فيجب تسميته بـ "أغلبية"، و الأغلبية بهذه الصورة لا تستند إلا على قانون القوة، و بالتالي على شريعة الغاب التي تضع الضعيف تحت رحمة القوي، و بقدر ما يزداد خطر القوي على الضعيف و تهديده بالإلغاء الكلي أو الجزئي، فلن يكون أمام الضعيف إلا البحث عن مصادر أخرى للقوة ليحمي بها نفسه من القوي، و هنا لا يحق لذلك القوي أن يتكلم عن أية مشروعية بخصوص تلك القوى مهما كانت، فحين تغدو القوة هي الحكم، تسقط كل المشروعيات!
  إن مبدأ "الأغلبية" هو فعليا "إعلان حرب" و كل اتفاق يبنى عليه، أو يدخل فيه، هو في أحسن الأحوال حالة هدنة، مصيرها السقوط مهما طالت مدة استمرارها.
   و اليوم في سوريا و بعد أن دفعنا أبهظ الأثمان في صراع استغلت فيه الهويات الفئوية بأبشع الأشكال، ولعبت فيه و في الوصول إليه السياسات الفئوية أسوأ الأدوار، علينا أن نبحث عن العلاج الحقيقي لداء تخلفنا الكارثي، و هذا طبعا لن يتم فقط بتخطي الولاءات و العصبيات الفئوية رغم ما لها من ثقل بارز فيه، إلا أن شيئا إيجابيا راسخا لن يتحقق إذا لم نتجاوز حدود الفئة و ندخل في محيط الوطن، و سنبقى في الأزمة، و سنعيد إنتاج الصراع عاجلا أم آجلا!

   كل من لديه إيديولوجيا و قومية و دين من حقه الاحتفاظ بها و الدفاع عنها، لكنه مطالب باحترام حق الاختلاف فيها، و حق غيره بامتلاك غيرها، و كل فئوي ملزم التزاما تاما بألا يسعى على أساس هويته الفئوية إلى إلغاء أو انتقاص أو تغيير هويات الآخرين! فهذه أمور لن يقبلها أحد و هي لا تخضع للتفاوض و الانتخاب، و لا تشرعن بشريعة الأغلبية، و نتيجتها الحتمية هي الصراع و الدمار.
 و بما أن الدين هو الأكثر حساسية في هذا الشأن، ففي دولة علمانية ديموقراطية، تضمن للفرد أوسع دائرة من الحقوق بما فيها حق التدين و الاعتقاد، فقط كل من العدواني و الخبيث و الإمّعة من الأشخاص لا يقبل العيش على مبدأ " الدين للفرد و الدولة للجميع"!

*
شهبا
17-2-2017
*
هذا المقال منشور في مجلة "جيرون"
على الربط التالي:
  http://www.geroun.net/archives/75746
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق