فهرس المحتويات

السبت، 25 فبراير 2017

العلمانية والدولة والدين..صورة مشوه في أذهان الكثيرين

رسلان عامر


                                
    

عندما يطرح العلمانيون مشروعهم العلماني، ويقترحونه كحل، يصطدمون برفض الإسلاميين، الذين يضعون مشروعهم الإسلامي بديلا في مواجهة العلمانية، ويهاجمونها بدعوى أنها ضد الدين وتلغي الدين وتلغي معه القيم والأخلاق المبنية على الدين، وعدا عن هذه الصورة المشوهة – قصدا أو عن غير قصد- التي يقدمها عن العلمانية الإسلاميون، ثمة الكثير من "المدنيين" الذي يقدمون عنها بدورهم صورة جد مقزّمة، تقتصر على فكرة "الفصل بين الدولة والدين"!
   وفي هذه المقالة سنسعى بإيجاز لتوضيح موقف العلمانية الحقيقي من الدين.. ومن الدولة، وضرورة العلمانية كبديل للأنظمة الديكتاتورية والدينية، ونصف الدينية.

أولا- العلمانية ولدين:
   تـَعتبر العلمانية "حق الاعتقاد" أو "حرية الضمير" حقا أساسيا من حقوق الإنسان، كل إنسان، وبالتالي يحق لكل إنسان أن يؤمن بالدين أو المعتقد الذي يرتضيه، كما يحق له ألا يؤمن بأي دين أو معتقد إن شاء، وبالنسبة للعلمانية، يدخل الدين والعقيدة في نطاق الشؤون الشخصية المحض، ولا يحق لأحد – سواء كان فردا أو جماعة أو حكومة-أن يتدخل في معتقد أحد آخر، ويفرض عليه معتقد أو دين ما، أو يحظره عليه، أو يعاقبه أو ينتقص من حقوقه بسببه، وفي العلمانية يتساوى المتدين وغير المتدين والملحد، ولا فرق بين مسلم أو مسيحي أو بوذي أو هندوسي، ولا بين ليبرالي وشيوعي أو وجودي، أو أي منتم ٍ إلى أي دين أو فلسفة أو عقيدة أخرى أو غير منتم ٍ، وكل منهم يستطيع ممارسة نشاطه الديني أو المعتقدي بالكامل، بشرط ألا يتسبب بالأذى لنفسه و لغيره، وعند نشوء أية ممارسة دينية مسببة للأذى، فالعلمانية توجب السلطة المعنية بمنعها، وهذا لا يحدث قطعا من "منطلق دينيّ"، بل من "منطلق أمانيّ" هدفه الحفاظ على المصلحة العامة والخاصة في المجتمع.
  بالطبع في العلمانية التي تقر بالتعددية، التي - تقر بدورها- بحقوق متساوية لجميع المختلفين دينا وعقائديا، لا يمكن لأي شخص أن يقول "عليكم أن تقبلوني كما أنا كليا"! بهذه الشاكلة لن يتمكن المختلفون من العيش والتعايش معا، ولكي يتمكنوا من فعل ذلك يفترض أن يقدم كل منهم بعضا من التنازلات بحيث يتوافق الجميع على نظام عيش مشترك، والتوافق هنا لا يتم بين المختلفين مع بعضهم البعض في صيغة تسوية أو محاصصة، وهنا أهم نقطة في الموضوع، فالتوافق يجب أن يتم مع المبادئ العلمانية نفسها، وهي مبادئ تنطلق من إنسانية الإنسان المجردة عن القومية والدين والجنس والإيديولوجيا، ليـُقـَر عليها لاحقا الحق بكل من القومية والدين والإيديولوجيا.. وغيرها بناء على الهوية الإنسانية المحض، وهذا يعني أنه على كل جماعة دينية أو معتقدية أو عرقية في المجتمع العلماني أن تكيف نفسها مع المبادئ العلمانية الإنسانية، وليس مع غيرها من المختلفين عنها، وبالتكيف مع العلمانية يتكيف المختلفون عن بعضهم مع بعضهم تلقائيا.
   إن كل جماعة دينية أو عقيدية أو عرقية أو سياسية، كبيرة أو صغيرة، يعترف بها في المجتمع العلماني ليس بصفتها الخاصة من حيث المبدأ، ولا لأنها أمر واقع، بل بناء على أن التجمع والاعتقاد هو حق أساسي من حقوق الإنسان، وعندما تتخذ أية جماعة شكلا رسميا أو غير رسمي، فهي مطالبة قبل كل شيء باحترام حقوق الإنسان، وكل إنسان، وبالتالي لا يحق لها إرغام أحد على ما لا يريده، أو عما يريده، فإن حاولت ذلك تـُمنع بقوة القانون.
    إقحام الدين في العلمانية غير مسموح لا في السياسة ولا الشأن العام، وهذا يعني فصل الدين عن كل من الدولة والمجتمع، والتوجه به إلى مجال الفرد، وإذا ما تأملنا في هذه النقطة بالذات، سنرى مدى الخدمة العظيمة التي تقدمها العلمانية لكل من الفرد والدين في هذا المبدأ، فبالنسبة للفرد هذا توسيع جد كبير لنطاق الفردية، يجعل الفرد هو القيّم والمتحكم بمعتقداته، فلا أحد يفرضها عليه أو يحرمه منها، أو يتدخل فيها، أو يعاقبه بسببه، وهذا جانب جوهري من جوانب تحرير الفرد، وهو بحد ذاته تحرير للدين، يمكّنه أن يتواجد ونمو ويستمر بقدر ما يريده الناس بشكل حر، فلا دين آخر يمنعه، ولا سلطان يتدخل فيه أو يضطهده، ولا رجل دين يهيمن عليه ويوجهه حسب عصبيته أو مصلحته، وكل متدين أو صاحب عقيدة يحق له ممارسة كل نشاطاته الدينية، من العبادة إلى الدعوة.. والنشر والنقد وسواها، ولا يـُمنع ما دام ذلك يتم بشكل سلمي غير ضار لأحد.
   العلمانية لا تطرح نفسها بديلا للدين، ولا لأي معتقد آخر ديني أو وضعي، هي ليست عقيدة، ولا إيديولوجيا، فهي نظام غير عقائدي، وهي نظام متجاوز للعقائد دون أن يلغيها، ومتجاوز للمفهوم الجزئي الفئوي للإنسان في الملة و العرق والحزب، وسواها، إلى الإنسان بمفهومه الكلي كإنسان، وهي في المحصلة تتسع لجميع الجزئيات وتستوعبها، لكنها تبقى مستقلة بذاتها ولا تتماهى مع أي منها، و بذلك تصبح النظام الذي يعترف بالتعدد، لكنه بنفسه يبقى مستقلا عن هذا التعدد، ومتجاوزا لأي تعدد.. ولا يصبح جزءا منه.
   يخطئ الإسلاميون كثيرا في وضع العلمانية مقابل الإسلام، ولو هم فعلوا ذلك بوضع الإسلام مقابل الشيوعية مثلا لكان ذلك صحيحا من حيث المنهجية، فالشيوعية إيديولوجيا، أي منظومة لها أنساقها العقائدية المحددة، وتهدف إلى تطبيقها على الواقع، وكل دين هو بدوره منظومة من الأنساق العقائدية المحددة، التي يسعى إلى إسقاطها على الواقع، أما العلمانية فليس لديها مثل هذه الأنساق، وهي مجموعة مبادئ ديناميكية، تعطي دوما المجال لظهور الأنساق المختلفة في كل مجالات الحياة، ولكنها تمنع أيا منها من الهيمنة التي تلغي أو تقصي غيره، فهذه الهيمنة تمنع التجديد وتـَشكل الجديد، مما يدخل المجتمع بذلك في الشلل والترهل ولجمود.
    لكن فلنكن صريحين، فجل الإسلاميين يرفضون العلمانية ليس خوفا منها أن تقصي الإسلام، بل لأنها تمنعهم هم أنفسهم من إقصاء أو إلغاء الغير، والهيمنة على الجميع، فأغلبية الإسلاميين شموليون، ولا يعترفون بالآخر، ويسعون إما إلى إلغائه أو إلى تهميشه، وهم يريدون فرض نموذج دولتهم الدينية على الغير بمنطق المغالبة اللامنطقي كليا، وهذا شكل من أشكال غطرسة القوة.. التي تدفع الآخرين الأضعف للبحث عن مصادر قوة خارجية تدعمهم ضد تهديد الأغلبية، مما يؤدي إلى الصراع والتدخل الأجنبي.
    وإذا أراد الإسلاميون السلام الاجتماعي والسلامة للوطن، فعليهم أن يقبلوا بمبدأ التساوي مع الغير، بغض النظر عن هويته وعدده، ومبدأ الأغلبية العددية الفئوية.. لا شرعيه له إلا القوة، وهذه شريعة الغاب، وهو إن مر عبر أية حيلة مختلسة من الديمودقراطية فلن ينتج إلا ديكتاتورية أغلبية أو نظام تحاصص طائفي، وكلاهما يفتتان الوطن والمجتمع، ويمنعان بناء الوطن الواحد المتجانس في وطنيته، القابل للاستمرار والنمو.

  ثانيا – العلمانية والدولة:
  لا تمنع العلمانية الدين من التدخل في شؤون الدولة وحسب، بل هي أيضا تمنع الدولة من التدخل في شؤون الدين، ما دامت ممارسته سلمية ولا تسبب أي ضرر للفرد والمجتمع والدولة، وليس هذا فحسب، فالعلمانية تمنع على الدولة أيضا تبني أية إيديولوجيا أو الانحياز إليها، فهذا يخل بمبدأ المساواة الإنسانية، بل وبالمنطلق الإنساني نفسه، والدولة العلمانية يجب أن تكون إنسانية من حيث المبدأ.. ومتجردة عن أي جزئية أو فئوية إنسانية على أرض الواقع، وهذا يقودنا إلى القول أن كل نظام دولة ديني..أو قومي أو إيديولوجي أو شمولي، أو ديكتاتوري.. هو غير علماني، فهو يخل بالمنطلق الإنساني اللافئوي.. و بمبدأ المساواة الإنسانية، وهذا يعني أن كلا من "النظام الشمولي"، و"نظام الحكم المؤدلج".. و"الدولة القومية" و"الدولة العسكرية" لا تنطبق عليها أيضا صفة العلمانية.
  في الدولة العلمانية يمنع الخلط بين الدين والسياسة، ويمنع بالتالي تأسيس الأحزاب على أساس ديني، ولكن العلمانية تفسح المجال للدين أن يدخل السياسة من بوابة الثقافة، ليس بصفته كدين مقدس، بل بصفته ثقافة إنسانية لها احترامها المبدئي، ولكن ليس لها العصمة والقداسة، وهكذا تسمح العلمانية بقيام أحزاب تبني برامجها وفكرها على مبادئ مستوحاة من الأديان ولا تخل بالمبادئ العلمانية، لكن لا يجوز لها أن تقوم على الدين نفسه وتجعله برنامجها أو عقيدتها السياسية، وتدخله مباشرة في السياسة، وهذا الكلام ينطبق على أحزاب مثل "الاتحاد الديموقراطي المسيحي " و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" في ألمانيا، و"العدالة و التنمية" ذي الخلفية الإسلامية في تركيا.. وغيرها، وهذه ليست بتاتا أحزابا دينية.. بل علمانية، ومنسجمة مع المبادئ العلمانية والسياسات العلمانية.
  الدولة العلمانية هي عقد سياسي مباشر بين الدولة نفسها والفرد، بصفته الشخصية الخاصة، وليس ثمة بينهما أي وسيط ثالث، سواء كان طائفة، أو كنيسة، أو حزبا، أو تجمعا، أو أي شكل تنظمي أو أهلي آخر، ففي الدولة العلمانية يدخل الفرد في الدولة مباشرة .. وبهويته الوطنية القائمة على كونه مواطنا، أما الدخول إلى الدولة عن طريق أية فئة دينية أو عرقية أو سواها .. فهذا ليس من صفات الدول العلمانية الديموقراطية، بل من طبائع دول التسلط والمحاصصة، التي لا تقوم على المبدأ الإنساني.

    ثالثا- ضرورة العلمانية:
    العلمانية نظام يحقق التساوي بين أبناء الوطن الواحد، ويحوله ويحولهم من "وطن ومواطنين بالقوة" إلى "وطن ومواطنين بالفعل"، وبالمساواة بين المواطنين على أساس إنساني وطني، تتعزز الهوية الوطنية، ويستقر البنيان الوطني، ويتموضع المواطن في مكانه المناسب في الوطن، ليقوم كل منهما بدوره الإنساني والوطني تجاه الآخر.
    أما الأنظمة العسكرية، والدينية، والتحاصصية، فهي تقوم دوما على القمع والوصاية والإقصاء والاستئثار، وإن تفاوتت الدرجات، وكلها تلتقي في اللاوطنية واللامواطنية، وتقوم على إقصاء المواطن والشعب وتهميشهما وهدر حقوقهما، وإن توخينا الدقة فهي حقيقة أنظمة بلا دولة ولا شعب ولا وطن ولا مواطن ولا مجتمع، وهي دون هذا بكثير، وما هي إلا سلطات وسلطنات تقوم على التسلط والقمع والاستبداد والفساد، ولذا، وإذا أردنا الخلاص من هذه الأوبئة، في سوريا وفي أي بلد عربي أخر، فعلينا أن نعي مكامن الخطر الأساسية، وألا نكتفي بتسطيح الأمور والكلام عن نظام فاسد وحاكم ديكتاتوري.. وتدخل أجنبي، وما شابه، وبالرغم من واقعية هذه الحقائق وضخامة أدوارها في الكارثة التي وصلنا إليها، فعلينا مع ذلك الغوص عميقا، لنرى ما في موروثنا التاريخي من مثالب، وما في واقعنا الاجتماعي من مساوئ، وسنجد أننا ما نزال كتلا بشرية ما دون شعبية وما دون مجتمعية مقسمة بين الطائفة والعشيرة والعرق، وتهيمن عليها الذهنية الغيبية، وأشكال الانتماء الغريزي، والتسلط الذكوري، ودور العلم والعقل والفكر ولثقافة فيها هامشي وسطحي، وفي الوقت الذي كان يفترض فيه أن تعمل الدولة على التغيير نحو الأفضل – وهذه مهمتها الأساسية- فعلت سلطات القمع والفساد العكس، وستغلت ما لدينا من تخلف وفساد اجتماعي وتاريخي، وكرسته وضخمته بقمع وتهميش وتطفيش الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية والسياسية والشخصيات الوطنية الحقيقية، لتفسح المجال للوصوليين والانتهازيين ومتدني الكفاءة وضيقي الأفق ومأزومي الضمير، كما أنها مكّنت وفعّلت دور المرجعيات والزعامات التقليدية من طائفية وعشائرية وعرقية وما شابه لكي تجعلهم سندا إضافيا لها في السيطرة على الجماهير، ودفعت عبر كل ذلك الأوضاع المتفاقمة التردي إلى حد الانفجار، وجعلت البلاد فريسة سهلة لكل طامع محلي أو أقيمي أو دولي من كل حدب وصوب ولون.
   وعلينا اليوم أن نعي.. بأن الخلاص لا يكون باستبدال زعيم بزعيم أو سلطان بسلطان، ولا يكون  بالتحاصص والاقتسام، ولا بالمجاملات والعبارات المنمقة بين السياسيين والوجهاء وأصحاب المصالح والنفوذ، ولكنه يكون بطرح الحل الوطني الصحيح، وهذا الحل هو الخيار العلماني الديموقراطي بامتياز، لكن هذا الحل لا يتم بقرار، كائنا من كان من اتخذه أو اتخذوه، فالعلمانية الديموقراطية هي أولا ثقافة، ومن يحاول إقامة نظام علماني ديموقراطي بلا الثقافة  اللازمة.. هو كمن يحاول بناء بيت عصري باستخدام اللِبن.
   طبعا من المهم العمل على الجبهة السياسية، ولكن هذا العمل سيذهب هباء إذا لم يترافق بالعمل المناسب على الجبهة الثقافية، وبدون الثقافة المناسبة، ستعود البيئة المتخلفة لإنتاج أنظمة الطائفية والقمع والفساد، ولكي نصل إلى العلمانية المتكاملة فلا بد من تلازم كل من العلمنة السياسية والعلمنة الثقافية، وإلا سنبقى دوما نعيش في الحلم العلماني.. لنبكي في الواقع على أنقاض الوطن الغريق والمحترق في نيران التخلف وما ينتج عنه من عظائم الشرور.

*

22-2-2017
سوريا -السويداء
*
هذا المقال منشور على موقع "Freethinker مفكر حر" على الربط التالي:
http://mufakerhur.org/?p=63217
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق