فهرس المحتويات

الأحد، 19 مارس 2017

كلمة مع الآخر في حلم الوطن

كلمة مع الآخر في حلم الوطن

رسلان عامر



إن تاريخ البشر هو عملية مستمرة  و متطورة من التنظيم – أو الانتظام- الاجتماعي، و تشكيل الجماعات، بدأ من لحالة القطيعية البدائية وحتى أرقى المجتمعات والدول المعاصرة، مرورا بالعائلة و العشيرة و من ثم  العرق، فالملّة و الأمة، وصولاً إلى المرحلة التنظيمية  العصرية الأعلى، على أساس إنساني محض يتعالى عن هذه البنى الأدنى، دون أن يقطع معها أو يلغيها.
و في الانتظام الاجتماعي يتم الانتماء إلى العرق برابطة الدم، والملة برابطة الإيمان، وإلى الحزب برابطة الإيديولوجيا، و إلى النقابة برابطة الحرفة و هكذا دواليك، وهذه كلها روابط فئوية، يتمايز فيها الفرد عن آخرين مختلفين عنه عرقاً أو ديناً أو سياسة أو حرفة، و ما شابه، و هي تقوم على صفة فرعية أساسية من صفات الفرد، تتم بموجبها عملية الانتماء.
أما الدولة – بمعناها الحديث- فهي الشكل الأعلى لتحقيق الانتظام الإنساني، و يتم هذا فيها على أساس إنسانية الإنسان، وينظم بمفهوم المواطنة، و في "دولة المواطنة"، أو "الدولة الوطنية"، تبنى العلاقة بين الفرد و الدولة، و بين الفرد والفرد، بشكل منفصل عن أي انتماء فئوي، فالانتماء الوطني هو انتماء مباشر للوطن، و هو رابطة بين الفرد و الفرد و الدولة، و يقيمه الفرد بصفة فردية، بشكل مستقل عن أية فئوية من أي نوع كان، ولا يلعب أي منها دور الوسيط  بتاتا، لا كليا و لا جزئيا بين الفرد و الدولة، فبينهما ليس ثمة أي مكان للفئة، وليس لها أيضا من محل بين الفرد والفرد بصفتيهما مواطنين في الدولة.

  إن الكلام عن وطن أو دولة، يقتضي منا الكلام عن هوية عليا تجمع جميع المنتمين إلى هذا الوطن أو الدولة، هوية وطنية شاملة عليا، تعلو كليا على أية هويات فئوية أخرى و تستقل عنها بالكامل، و فيها يتساوى جميع المواطنين في جميع الحقوق والواجبات بدون أية تمييزات تقوم على معايير فئوية، ذات طبيعة دينية أو عرقية أو حزبية و ما شابه، فالكل في هذه الهوية متساوون، ، وهي هوية واحدة للجميع، و الكل فيها ينتمي بنفس الدرجة للوطن و الدولة، و لا يجوز لأحد أن يحظى بأية امتيازات أو حقوق يـُمنع عنها سواه بناء على انتماءات فئوية أدنى، سواء كانت هذه الانتماءات دينية أو قومية أو سياسية، فإذا فرضت هذه الامتيازات أو الحقوق الخاصة بناء على أية هويات فئوية، فهذا يعني تهميش و تهشيم  الهوية العليا الشاملة و تحطيمها، و بناء عليه تحطيم الأسس التي تقوم عليها الدولة، و الانحدار إلى مستوى ما دون الدولة، و هنا على- و على مستوى الهويات الفرعية الدنيا- لا يعود لمفاهيم أكثرية وأقلية معنى، لأن المقصودين بها يتبعثرون بلا جامع، و هذه المفاهيم لها معنى فقط بين المجتمعين، وعلى مستوى انتماء شامل على أساس هوية موحدة و التقاء في بنية جامعة، و في حالة التعدد الفئوي هذا يتم عبر هوية وطنية كلية تقوم على الانتماء الوطني الصرف المتخطي للفئوية، وعليها تبنى الدولة الواحدة الموحدة!
  إن الانحدار إلى  دركة الأدنى يلغي الهوية العليا و الانتماء الأعلى، وهكذا يسقط الانتماء الوطني، وتنهار الأسس التي تقوم عليها الدولة، وبالتالي تلتغي الهوية التي تجمع ذوي الانتماءات الفئوية الدنيا المختلفة، و سواء قل أو كثر أبناء (هوية) ما، فهذا لا يعود له معنى عند الآخرين كقول الصينيين للفرنسيين مثلا "نحن أكثرية"، ولا يعود مقبولا على أساس ديموقراطي، فالديموقراطية بما تقوم عليه من احتكام لرأي الأكثرية، لها معنى فقط ضمن جماعة موحدة و متجانسة ، و أرقى شكل تبلغه هذه الجماعة هو "الشعب" بالمفهوم الحديث، فإذا أردنا الاحتكام إلى مبدأ " الأكثرية و الأقلية" داخل شعب مفترض على أساس طائفي أو عرقي أو حزبوي، فتتنا الشعب، و شرذمنا الجماعة الموحدة، و حطمنا الفضاء البشري اللازم لتطبيق مبادئ الديموقراطية!

هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الإنساني، و هو الأعم، فكل ذو هوية مطالب بأن يحدد موقفه من ذووي الهويات المختلفة، أي الآخرين، و موقفه من حق الاختلاف في الهوية و سواها، و هناك ثلاثة مواقف لا غير:
- إما الاعتراف الكامل بالآخر كإنسان متساٍو بالحقوق مع صاحب هذه الهوية.
- أو الاعتراف به جزئيا، وبالتالي الاعتراف له ببعض الحقوق.. و حجب بعضها الآخر عنه.
- أو عدم الاعتراف ب هبه بتاتا، و هذا يعني إلغاءه كلياً كآخر.
  الحالة الأولى أي الاعتراف بالآخر تعني الاعتراف به من حيث المبدأ كإنسان، بغض النظر عن أية حيثيات أخرى، و الاعتراف بهذا الآخر لا يعني الاعتراف الذاتي بدين أو معتقد أو رأي هذا الآخر و ما شابه، بل هو قبل كل شيء اعتراف بحق هذا الآخر بالوجود بقدر حقنا بالوجود، و بأن يكون له ذاته وشخصيته كما لنا نحن ذاتنا و شخصيتنا، سواء اختلف هذا الآخر عنا كثيرا أو قليلا، و اختلف ما لديه عما لدينا كليا أو جزئيا!  إن هذا يعني الاعتراف بحق هذا الآخر بالوجود كآخر، والاعتراف بحق الاختلاف، و أمام الحق بالوجود تسقط كل مفاهيم الأكثرية و الأقلية، و هو حق غير قابل للتفاوض أو الانتقاص، و لا يخضع إلى أية لعبة انتخابية، و لا أحد يرضى أن يلغى وجوده (أو تلغى هويته) من قبل فئة أخرى بذريعة الأكثرية العددية! و لا أحد يحق له أن ينصب نفسه حكما على حقوق الآخرين، بحيث يعترف لهم ببعضها و يمنع عنهم بعضها الآخر، أو يعترف للبعض بحقوق ما .. و يمنعها عن غيرهم بناء على معاييره الخاصة! الأمر ببساطة هو الاعتراف بحق الآخر بالوجود كما يـُعترف بهذا الحق للذات، وهذه حالة اجتماعية علائقية سليمة يمكن عليها بناء مجتمع متوافق ومتصالح ، مستقر ومتطور.
أما الحالة الثانية( الانتقاص) فهي تبقي المجتمع دوما في حالة (شبه مجتمع) يسوده التوتر وعدم الاستقرار المتناسبين طردا مع  درجة الانتقاص، و يهدده دائما الصراع، فيما تقود الحالة الثالثة(الإلغاء) حكما إلى أشد حالات الصراع، الذي يعد بالنسبة للمـُلغى (صراع وجود) مصيري!  
 
عندما تكون ذو هوية مختلفة عن هويتي فأمامنا فقط ثلاثة خيارات، و هي:
-أن يدع كل منا الآخر، و يستقل وينفصل عنه كليا.
-أن نتفاهم و نتعارف و نعترف ببعض كمتساوين، و لبعض بحقوق متساوية.
- أن نتغالب و نتصارع ، فيهزم أحدنا الآخر أو يقضي عليه ذاتا أو هوية.
  و في مكان تعيش فيه مجموعات من البشر ذوي الهويات المختلفة، يعني الخيار الأول الانقسام أو الانعزال، و عدم إمكانية إقامة و طن واحد، و إن تعذر ذلك لسبب ما، كالجغرافيا مثلا، فهو سيتحول إلى حالة انتقاص أو إلغاء، و تكون النتيجة الاضطراب أو الصراع، أما الخيار الثالث فهو يعني حتمية الحرب والدمار، بينما يبقى الثاني خيارا صالحا لبناء الوطن و الدولة السليمين، الذين يتساوى فيهما الجميع بغض النظر عمن هم وكيف و كم هم! و هذا يقتضي من الجميع تخطي هوياتهم الفئوية  لخلق هوية وطنية أعلى، يكونون فيها جميعا بالنسبة لبعضهم البعض "غير أغيار"، و يكونون فيها واحدين موحـَّدين، فإن عجزوا عن ذلك، و كانت إمكانية الافتراق غير ممكنة، فأحسن ما يمكن الوصول إليه هو "التعايش الهش" المهدد في كل لحظة بالانقسامات و الصراعات الفئوية المدمرة، و هذا ما نغرق في ناره الآن!
  فيا أيها الآخر، أيا كنت، إذا أردتنا أن نتعايش و نعيش معا، عليك أن تعترف بي كما أنا، و تقبلني كمختلف عنك، و مساو لكن دون أن تسألني "من أنا".. و "كم أنا"، و لكي نعيش معا.. علينا أن نتفق على نظام عيش مشترك، لا تفرض فيه لا كليا أو لا جزئيا ما لديك و لا أفرض ما لدي، نظام يساوي بيننا.. ويضمن المساواة بيننا، و هو بالطبع لن يكون مؤسسا على ما يخصك.. و لا على ما يخصني، و لا على ما يميزك أو ما يميزني، بل على ما يجمعنا معا، و هو إنسانيتنا!  وبغير هذا لن يمكننا أن نتعايش تعايشا حقيقيا، و سيبقى تعايشنا إن حدث كذبة مهددة دوما بالزوال.. إلى أن يزول فعليا في يوم ما!  و بديل  التعايش الحقيقيِّ هو  إما الفتراق أو الاقتتال! و لكي أكون صريحا معك أكثر.. لا تطرح على أي نظام عيش مشترك يضمن لك بذريعة الأكثرية العددية حقوقا أكثر مني، أو يناسب خصوصيتك أكثر من خصوصيتي، حتى و لو كانت هذه الخصوصية دينا، و تسلحك بالأكثرية العددية هو تهديد بالغلبة، و تلويح بالصراع، وليس دعوة إلى السلام والتعايش! و لكي لا تفرض علي دينك أو معتقدك أو ثقافتك، أو أفرض مثلها عليك ليس أمامنا إلا "العلمانية".. فهي النظام الذي نبنيه على أساس إنسانيتنا، و ننطلق فيه من وطنيتنا، هذا إذا أردنا لهذه الوطنية أن تتحقق و لهذا الوطن أن يعيش، و هي – أي العلمانية- النظام الذي يراعي دين ومعتقد و ثقافة و كل ما يخص كلا منا بنفس القدر، و يشعرنا بالتساوي و المساواة، و التماثل و الوحدة.

*
تم نشر هذا المقال على موقع "السوري الجديد"
بتاريخ:
15- أذار -2017

على الرابط التالي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق