فهرس المحتويات

الخميس، 21 نوفمبر 2019

نحو مفهوم عقلاني للوطنية السورية




رسلان عامر


رغم أن الربيع العربي لم ينجح بعد في تحقيق الآمال المعقودة عليه في البدء ببناء الدولة الحديثة، إلا أن إحدى حسناته الكبيرة هي أنّه عرّى زيف كافة الشعارات المطروحة والقناعات الموجودة على الساحة العربية، التي بقي لها بعض الحضور، وأسقط عنها الأوهام، وليست الأوهام التي نعنيها هنا هي أوهام المشاريع القومية أو التقدمية التي طرحتها جهات مختلفة، عروبية أو يسارية أو سواها، فإفلاس هذه المشاريع كان قدا غدا أمرا جليا قبل بداية الربيع العربي، الذي جاء كردة فعل على الأزمة المستفحلة التي كان هذا "الربيع" نتيجة حتمية لها، فالأوهام المعنية هنا هي الأوهام الموجودة على مستوى الجماهير، المستوى الشعبي، وهي ترتبط بالواقع على هذا المستوى، ويأتي في طليعتها "وهم الوطنية".
فحوى هذا الوهم هو وجود اعتقاد بوجود "حالة وطنية" بلغت حدا كافيا من التبلور والرسوخ على المستوى الشعبي، بحيث يتحقق فيها أمران:
أولهما: وعي كاف بمعنى الوطنية الحقيقية، بحيث لا تغدو الوطنية شعارا يُستغل من قبل الانتهازيين للتغطية على السياسات المصلحية الخبيثة الخاصة، التي تتناقض مع المصلحة الوطنية الحقيقية، وتُلحق بها أفدح الأضرار.
وثانيهما: نضج في الهوية الوطنية، بحيث تغدو الوحدة الوطنية في مأمن من تهديدات الهويات الدنيا كالطائفية والعرقية والعشائرية، وما يمكن أن تتسبب به من صراعات وانقسامات.
وهذا الأمران لا ينفصلان عن بعضهما البعض، والعلاقة بينهما علاقة تفاعلية تكاملية.

لا شك أن الأوضاع تختلف بين بلد عربي وآخر في مسألة الوطنية، فمثلا، الحال في تونس وطنيا أكثر استقرارا وأمانا منه في مصر، التي تعاني من مشكلة التعصب الديني، التي تتسبب بها القوى الإسلامية المتشددة والمتطرفة، والتي تلقي بظلالها بشكل عام على العلاقة بين المسلمين والأقباط، وتُدخِل فيها عناصر الحساسية والتوتر، مع ذلك، فهذا لا يشكل تهديدا خطيرا لأمن مصر، أما إذا ذهبنا إلى سوريا والعراق واليمن والبحرين، فسنجد أن هذه المخاطر على أشدها، حيث اندلعت صراعات عنيفة، تبين فيها مدى هشاشة الحالة الوطنية في هذه البلدان، التي تبين أن الحال فيها اجتماعيا لا يختلف عن حال لبنان في سبعينيات القرن الماضي، عندما اندلعت فيه الحرب الأهلية، التي كانت بدرجة ما تكرارا لحرب جرت قبل ذلك بقرن تقريبا، ما يعني أن قرنا كاملا لم يستطع أن يصنع تغييرا جذريا في هذه الحالة المأزومة..

ثمة بكل تأكيد درجة محققة من الوطنية على المستوى الشعبي في هذه البلدان، ولكن الواقع أثبت أنها ليست قطعا قوية بما يكفي لتصنع حالة وطنية حقيقية، فهذه البلدان هي بشكل عام  كسواها من البلدان العربية الأخرى، تعيش حالة من التردي العميق الشامل على كافة الصعد تحت نير سلطانيات مستبدة فاسدة، وكان يفترض بانتفاضاتها الشعبية، التي جاءت ردا على هذه الأزمات، أن تضعها على المسار الوطني الصحيح لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، ولكن الذي حدث هو نقيض المرجو، حيث دفعت هذه الانتفاضات باتجاه التطرف التكفيري والنزاع الفئوي، ما حول هذه الانتفاضات في المحصلة إلى كوارث، ولم تنج البحرين من ذلك إلا لأن تدخلا خارجيا سيطر على الوضع فيها واحتواه، وفق سياساته الخاصة بالطبع، وقد ساعد صغر حجم البحرين على ذلك.
أما البلدان العربية الأخرى فليست أيا منها أفضل حالا على صعيدها الوطني من هذه البلدان المنكوبة، فاختلاف مصر عن سوريا والعراق مثلا، لا يعود إلى عامل نوعي في الوعي الوطني في مصر، بقدر ما يرتبط بعوامل موضوعية تاريخية، هي التي جعلت اللحمة الوطنية فيها أقل هشاشة.


هذا الوضع المأساوي يتطلب تحليلا عقلانيا وجريئا لأسبابه المباشرة والبعيدة، فما لا شك فيه أن الديكتاتوريات الفاسدة لعبت دورها الكبير في  دفع الأمور إلى الهاوية، لكنها مع ذلك لم تدمر حالة وطنية ناضجة مستقرة كانت موجودة قبلها، بل هذه الديكتاتوريات نفسها هي في العديد من حالاتها نتاجات لحالة عدم النضج الوطني، حيث تلعب البنى الطائفية والعرقية والعشائرية أدورا هامة في انتاج وتمكين هذه الديكتاتوريات، فيكون دور هذه الديكتاتوريات إما كبح حركة النمو الوطني ودفعها بالاتجاه المعاكس كما حدث في سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال، أو يكون دورها ترسيخ حالة التشرذم والتخلف كما هو الحال في بلدان أخرى كاليمن مثلا.

عند السؤال عن سبب هشاشة الحالة الوطنية على الساحة العربية عموما، فسنجد أن "الروح الوطنية" في هذه البلدان هي بشكل عام "حالة شعبوية" و"عاطفية" أكثر من كونها "طبيعة اجتماعية" ناضجة مستقرة، وهذا يقتضي منا هنا السؤال عما تعنيه "الوطنية"؟
كأي مفهوم آخر هناك للوطنية تعريفات عديدة، تختلف باختلاف المدارس الفكرية والمصالح السياسية والإيمانات العقائدية، كما تختلف بين زمن وآخر، وسوى ذلك، ولسنا الآن معنيين بهذه الاختلافات، ولكن يمكن  القول بمقاربة تبسيطية على أنها تلتقي بدرجة أو بأخرى على أن "الوطنية هي حب الوطن والإخلاص له والعمل من أجل مصلحته، وإعطاؤه الأولوية في كل جب وإخلاص ومصلحة"، لكن هذه الخلاصة بدورها تقودنا إلى سؤال هام آخر "عما هو الوطن"؟

هنا يصبح الوضع أصعب!
ولنأخذ الحالة السورية نموذجا، فإذا سألنا سوريا معاصرا عما يعنيه له الوطن، فلن نجد جوابا محددا قاطعا عند الجميع.
فـ "العروبي" سيقول أن "الوطن هو الوطن العربي"، وهذا ما سيختلف فيه معه "الكردي" الذي سيرى عندها بالمفهوم القومي أنه بالنسبة له "كردستان هي الوطن"، وهنا سيعترض عليهما معا "القومي السوري" الذي يرى أن "الهلال الخصيب هو الوطن"، وكل ما تقدم سيرفضه "مسلم متشدد" يرى أن "ديار الإسلام هي الوطن"، ولا يستبعد عدا عن كل ما تقدم أن نجد "شيوعيا أمميا" أو "ليبراليا كوزموبوليتانيا" يريان رغم ما بينهما من اختلاف أن "العالم كله وطن"، وما لا شك فيه أننا سنجد الكثيرين سواهم ممن يرون أن "الدولة السورية الراهنة هي الوطن".
فما هو الوطن؟
  
مالا شك فيه أن مفهوم الوطن تدخل فيه عدة أبعاد يمكن أن نوجزها بما يلي:
- البعد الجغرافي
- البعد الجماعوي
- البعد الاجتماعي
- البعد السياسي
فهل الوطن يقوم على أحد تلك العوامل، أو على بعضها، أو عليها كلها؟

لا شك أن الأرض هي عامل أساسي، لأن الإنسان دائما يحتاج إلى أرض يعيش عليها وهي ما يمكن تسميته بـ "أرض المعاش"، فهل الأرض إذا هي التي تحدد مفهوم الوطن؟
هنا سيكون علينا أن نجيب عن عدة أسئلة حساسة مثل:
ما هي حدود هذه الأرض إذا؟ ولم لا تكون القرية أو الحارة أو المدينة مثلا هي الوطن، طالما أن الكثيرين تتأطر حياتهم بشكل أساسي في هذه الحدود؟
وماذا يحدث إذا انتقل الإنسان إلى أرض أجنبية بعيدة واستقر فيها؟.
إن سؤال الانتقال هذا يجيب عليه الواقع بأن الإنسان في هذه الحالة يصبح لديه عادة "وطنان"، وطن المنشأ ووطن المهجر، وهذا يقتضي السؤال عن الرابط الذي بقي مع أرض المنشأ ثم تكوّن مع أرض المهجر، وهذا الرابط هو رابط إنساني، وبما أنه في كلتا الأرضبن لا يعيش الإنسان إلا في جماعة، فهذا يدل على وجود بعد اجتماعي في مفهوم الوطن، وهذه "الاجتماعية" هنا لا تعني الانتماء المنشأي، فهذا محقق فقط في الوطن الأم، وليس في وطن المهجر، ما يعني أن الرابطة الاجتماعية بالمهجر تعني "الاشتراك الاجتماعي"، وليس "الانتماء الاجتماعي" التقليدي.
أما سؤال الحدود، فيمكن الإجابة عنه بأن معظمنا لديه أقارب من جهة الأجداد والجدات في قرى أو مدن مجاورة، وعند التوسع في علاقات القربي سنجد أنها تغطي مجتمعا ورقعة جغرافية واسعين، إذا هنا وعلى هذا المستوى الاجتماعي البسيط، يبدأ الحديث عن جماعة موسعة تتشابك بين أبنائها علاقات القربي وسواها من العلاقات الاجتماعية، ما يعني أن "عامل الجماعة" يجب أن يضاف إلى "عامل الأرض" في مفهوم الوطن، والجماعات الأكثر تقليدية في التاريخ البشري هي الجماعات العرقية والدينية والقومية، وهكذا يصبح ممكنا القول أن الوطن هو الأرض التي تعيش عليها الجماعة التقليدية التي ينتمي إليها الفرد، وهنا يصبح مقبولا أن يرى العروبي في الوطن العربي ككل وطنه، أو في ما يراه القومي السوري في الهلال الخصيب كوطن، ويصبح الكردي محقا أكثر في رؤية وطنه في "كردستان" لأن قوميته العرقية الكردية أكثر تبلورا من القومييتن العروبية والسورية، وكلتاهما "مشروع قومي" أكثر منها "قومية فعلية".
لا شك أن "عامل الجماعة" هو عامل جد هام في مفهوم الوطن، وفي العالم المعاصر ثمة الكثير من الأوطان المرتبطة بجماعة ذات طابع قومي، وقومي عرقي الجذور، ومن الأمثلة على ذلك اليابان، وكوريا، وألمانيا وإيطاليا وسواها، لكنها حالات راقية بالمفهوم الاجتماعي، وهي حالات من الأمة القومية التي تتقدم في الاتجاه الإنساني لتصبح قوميتها لونا لإنسانيتها، وليست هوية عنصرية تميزها.

 لكن ماذا سنقول عن دول مثل أستراليا أو كندا أو سويسرا أو بلجيكا؟
كل مواطن في هذه الدول يعتبر دولته هي وطنه، ما يعني أن الدولة أيضا يمكنها أن تكون عاملا يؤسس عليه "مفهوم الوطن".
لكن الدولة ككيان سياسي محض تبقى كيانا هشا قابلا للتفتت إن كان يدخل في تركيبه العديد من البنى الفئوية غير المنسجمة، ما يعني أن استمرار هذه الدول يحتاج إلى درجة من الانسجام أو الاندماج بين هذه المكونات الاجتماعية، بحيث تخلق رابطة تتجاوزها وتعلو عليها هي "الرابطة الوطنية".
بالنسبة لكندا وأستراليا وكل دول قارتي أمريكا وأقيانوسيا ثمة درجة عالية من الاندماج الاجتماعي القائم على أساس فردي، كوْنها تكونت من مهاجرين غادروا جماعاتهم الأم، ولم يعيدوا تأسيس بنى مصغرة عنها في المهاجر في أغلب الحالات، ما مكنهم من الاندماج مع مهاجرين آخرين من جماعات أخرى، وأنتج في المحصلة جماعة جديدة.
بالطبع هذه الدول لعب العامل السياسي أيضا دورا أساسيا في تقسيمها إلى وحدات بشرية، قامت على أساسها دول، ساهمت بخلق هويات، وأوطان مرتبطة بهذه الهويات، ورغم أن هذه المجتمعات ما يزال لديها مشاكل ذات طابع هويوي، إلا أنها تتطور أكثر فأكثر، وتغدو مجتمعاتا ودولا وأوطانا أكثر قوة واستقرارا.
أما بالنسبة لسويسرا وبلجيكا، فنجد هنا أن الدولة الموحدة والتطور الاجتماعي ساهما في خلق هوية جامعة لمكونات قومية مختلفة، مكنت من إنتاج دولة متماسكة لها هويتها المتبلورة المتعالية على هذه الهويات الفئوية، ما جعل هذه الدولة تقترن بحالة وطنية خاصة بها وقائمة عليه، وبالعكس.

مما تقدم نستنتج أن مفهوم الوطن هو مفهوم يمكن أن يقوم على أكثر من عامل، وأن يأخذ أكثر من معنى، وبالنظر إلى حالة العالم الراهن المقسم إلى أوطان مقترنة بدول، يمكن القول أن "الوطن" والدولة غالبا ما يتطابقان، وهذه الصورة تعززها "الدولة الحديثة"، والتي  تسمى أيضا "بالدولة الوطنية الديمقراطية".
فإذا عدنا إلى "الحالة السورية"، فسنجد أن مفهوم الوطنية فيها هو فعليا مفهوم ضبابي وغير محدد، وهش، وهذا ما أكدته بشكل جلي الأزمة الكارثية، التي ابتدأت باستحقاق وطني حقيقي عام 2011، لكن السعي  لتحقيق هذا الاستحقاق المتمثل ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية، سرعان ما حرف عن مساراه ودفع باتجاه الصراع على السلطة، الذي يتعدى الساحة السورية إلى المصالح المرتبطة بسوريا إقليميا ودوليا، فتحولت سوريا إلى ساحة صراع مصالح شرسة، واستغل فيه بأبشع الأشكال التطرف الديني والانتماءات الفئوية القطيعية.
ما لا شك فيه أن هذه الوضع الكارثي، ما كان ليحدث لو أن "حالة وطنية حقيقية" كانت قائمة في سوريا، وهذا ما تتحمل مسؤوليته بدرجة أساسية سلطة الاستبداد والفساد الحاكمة، التي أحبطت حالة النمو الوطني التي كانت تتقدم في مرحلة ما بعد الاستقلال رغم العقبات، وتلاعبت بالقضية الوطنية وأفرغتها من محتواها خدمة لمصالحها الخاصة، بل حولتها إلى ذريعة للتهرب من الاستحقاقات الوطنية الحقيقية، أو لتبرير سياسات القمع والانتهاز.
لكن مع ذلك ثمة أمر يتعدى دور هذه السلطة، وهو يرتبط بطبيعة هذه الدولة نفسها من الأساس، والوطنية التي يمكن أن ترتبط بها!
 فالمعيار الوطني الوحيد القابل للانطباق عليها هو "معيار الوطنية المرتبطة بها كدولة"، لأنه ليس لدينا فعليا في سورية "أمة سورية حقيقية" تقوم على قومية متبلورة "سورية" أو "عربية" بالمعنى القومي، لتنتج دولة كاليابان أو ألمانيا أو إيطاليا وما شابه، ولو كان لدينا واحدة من هاتين القوميتين لبقيت لدينا إشكالية "التجزئة"، التي تكون فيها سوريا عندها جزءا من وطن، إما هو الوطن العربي بمفهومه العروبي، أو الوطن السوري بمفهومه القومي السوري.
واقعيا ثمة اليوم كيان سياسي هش "هو الدولة السورية" بشكلها الحالي، ولدينا مجتمع وشعب هشين بدورهما، وما تزال الانتماءات الفئوية فيهما جد قوية، بحيث تشكل أخطارا وتهديات حقيقية لهذه الدولة.
إذا إما سيكون علينا عند السعي لتحديد مفهوم الوطنية والوطن أن نتعامل مع حالات افتراضية ومشاريع لم تتمكن من تحقيق أي إنجاز حقيقي على مدى أكثر من نصف قرن كالمشروع العروبي، أو المشروع القومي السوري، وهي مشاريع عدا عن ذلك تسبب لنا الكثير من تناقضات الهوية مع أصحاب القوميات الأخرى، ما يزيد من حدة التشرذم بدلا من تعزيز اللحمة الاجتماعية.
أو سيكون علينا قرن مفهومي الوطن والوطنية بالدولة السورية الراهنة، وهذا بالطبع أكثر واقعية!
فهل سنكون قد حللنا المشكلة بهذا الشكل؟
هنا سنصطدم بالحقائق التالية:
أنّ هذه الدولة بجغرافيتها الراهنة، تقع في حدود صنعتها اتفاقية سايكس بيكو، فلو عدنا إلى ما قبل تلك الاتفاقية المشؤومة، لكنا سنجد الدولة السورية عندها تضم إضافة إلى سوريا الراهنة كل من لبنان والأردن وفلسطين وكليكيا والجزيرة العليا، ما يعني أننا بتركيزنا على "سوريا الراهنة" تكون قد اختصرنا حجم الوطن السوري واختزلناه.
وهذا بدوره سيقودنا إلى السؤال: ماذا لو نجحت كل مراسيم غورو بتقسيم سوريا إلى عدة دويلات في بداية الاحتلال الفرنسي لسوريا؟ أما كانت عندها كل "دويلة" ستصبح في نظر أهلها وطنا مقبولا، كما هو الحال بالنسبة لللبنانين والأردنيين، ولكان لدينا الآن دويلات وأوطان منفصلة في دمشق وحلب وجبل العرب والساحل السوري والجزيرة؟
هنا قد يقول قائل، لكن خطة غورو فشلت، وقد أفشلتها وطنية الشعب السوري، والجواب على هذا هو أن الوطنية بلا شك لعبت دورها في ذلك ونجحت في إفشال مراسيم غورو جزئيا، لأن الظروف السياسية المحيطة ساعدتها على ذلك، لكن هذه الوطنية، لم تنجح في إسقاط "سايكس بيكو" حتى الآن، وكما أنتجت سايكس بيكو "أوطانا" مقبولة عند أهلها حتى اليوم، وهذه حقيقة مرة، فعلينا أن نعترف رغم مرارة الاعتراف أنه لو ساعدت الظروف السياسية وقتها مراسيم غورو، لأنتجت المزيد من هذه "الأوطان المختزلة" المعترف بها، ولبقيت كذلك حتى اليوم.
هذه الحقيقة ترتبط بحقيقة أخرى، وقد سبق الحديث عنها وهي الافتقار-الذي ما يزال مستمرا- إلى وجود هوية وطنية سورية متبلورة في واقع تترسخ فيه البنى والهويات الفئوية الشرسة.
وعدا عن ذلك فمستقبل سوريا السياسي بعد ثمانية سنوات من الصراع الدامي ما يزال مجهولا، والوضع السوري اليوم تتحكم به القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، والتي تهمها مصالحها مهما كانت انعكاساتها وخيمة على المصلحة السورية.

خلاصة الأمر، وبما أن السياسة هي فن الممكن، وهي التعامل مع الواقع كواقع، فالواقع الراهن ما يزال مرتبطا بـ الدولة "السورية الراهنة" أيا كانت مساوئها، وأيا كانت ملابسات وإشكاليات نشأتها وتكونها.
والواقع العقلاني يقول أنه علينا أن نقرن مفهوم الوطن والوطنية بهذه الدولة، بعيدا عن العواطف، لأن إدخال العواطف في موضوع الوطنية هذه سيعيدنا إلى تخبطات عديدة خطيرة، فإذا أدخلنا القوميات في الموضوع مثلا، فلن يتفق العروبي والقومي السوري والكردي، وسيتنازعون، وإذا تعاملنا مع مفهوم الوطن بالطريقة الرومانسية، فستثب في وجهنا كل الحقائق الصادمة التي تحدثنا عنها أعلاه.
ذاك يعني أننا يجب أن نتعامل مع "الوطنية السورية"، ليس كحالة قائمة تماما، فهذا غير محقق فعليا، وليس بالشكل العاطفي السابق، الذي لم ولن يساعدها على التبلور، وأبقاها مطية للمستغلين.
هذه "الوطنية السورية" يجب أن يعاد بناؤها على أساس واحد فقط، وهو "الدولة السورية"، ولكي يكون هذا الأساس منطقيا وشرعيا وعمليا، فهذه الدولة لكي تكون وطنا حقيقيا، فهي يجب أن "تكون دولة وطنية ديمقراطية"، وهذا شرط لازم كاف، وفيه لا تنفصل قطعا "الوطنية" عن "الديمقراطية"، فإن انفصلتا أصبحت كلا منهما "زائفة".
هنا تغدو "المواطنة"، هي أساس "الوطنية"، فالمواطنة تعني في الدولة الديمقراطية احترام حقوق الإنسان، الذي يعني عمليا تحويلها إلى واقع حي معاش، ويعني بدوره تحقيق وتنمية إنسانية الإنسان، وهنا يصبح هذا "الشرط الإنساني" هو فعليا الأساس الذي تقوم عليه الدولة الوطنية، الدولة الوطن، الوطن الحقيقي، وهكذا تصبح الإنسانية هي أساس الوطنية المرتبطة بهذا الوطن الإنساني، الذي يحبه إنسانه ويخلص له، لأنه يحقق فيه إنسانيته.
واقعيا هذا هو اليوم المسار الذي تتطور فيه "الوطنية المعاصرة"، المقترنة بالدولة الوطنية، أما "الوطنية الرومانسية" فهي كغيرها من الرومانسيات، لا تبني، وكثيرا ما تعرقل عملية البناء عند تدخلها فيها، أما البناء الحقيقي فيجب أن يتم على أسس عقلانية، وهذا البناء لا يلغي الرومانسيات، لكنه يضعها في مكانها المناسب لتكون فيه هي نفسها عاملا إنسانيا جميلا، وهذه الرومانسيات، بما فيها الرومانسية الوطنية، مكانها في البناء الديمقراطي هو "النطاق الشخصي"، وهو في الديمقراطية نطاق واسع بما يكفي، ولكنه لا يتموضع في أساس بناء الدولة والمجتمع.  

*
‏22‏/08‏/2019
المقال منشور على مجلة جيرون
https://geiroon.net/archives/158278

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق