فهرس المحتويات

الخميس، 7 نوفمبر 2019

الثقافة ومستقبل الإنسان


الثقافة ومستقبل الإنسان
رسلان عامر




*


في عصر الاجتياح العلمي والتكنولوجي، والجموح نحو التخصص والجنون بالاستهلاك في المجتمعات الحديثة، يطرح سؤال نفسه عما هي الثقافة وعمن هو المثقف في هذا الحاضر، وعن علاقة كل منهما بكل من التخصص والعلم والمعرفة، وأهميتهما في الديمقراطية وموقفهما من تحديات التكنوقراطية، ودورهما في عملية الانتاج الإنساني.
  
وهذا ما تسعى هذه المقالة الكلام فيه.       

*

الثقافة هي ميدان تلاقي وتفاعل كل ميادين المعرفة المتنوعة في فضاء معرفي شامل، يحتويها ويبني عليها، ويتجاوزها قدما بشكل مرتبط بالإنسان فردا وجماعة، بغاية أنسنة عملية المعرفة وإنشاء الإنسان العارف، الذي يمتلك المعرفة معلومةً وفكرة وموقفاً ومنهجاً، ليعيشها على مستوى العقل والفعل كبعد جوهري من أبعاد إنسانيته.

في هذه العملية تلعب الثقافة الدور الذي يحافظ على كلانية ووحدة عملية المعرفة، عقلا وضميرا وفعلا، التي تـُمكن الإنسان من خلالها المحافظة َ على وحدة وتكامل شخصيته الإنسانية، وتحقيقيها المستمر على كافة الأبعاد، وهذا يحمي إنسانية الإنسان المرتبطة جذريا بكلانية أبعادها من الاختزال التماوتي في أحادية البعد، والانفصال كفرد عن الجماعة، والغرق في البعد الواحد المنعزل عن الجماعية، والذي ينتهي فيه كل من الفرد والجماعة إنسانيا، وتصير الجماعة كومة من البشر والفرد قطعة فيها.

في الاجتماع والجماعة تتحقق الإنسانية ويتم فعل الأنسنة، الذي ينتج فيه الإنسان العارف نفسه ذاتا لامحدودة ولامنتهية، متكاملة الآفاق في فرديتها وجمعيتها، وهنا تلعب الثقافة دورها المحوري في إبقاء عملية المعرفة المترابطة جذريا وجدليا مع فعل الأنسنة ميدان تنوع معرفي موحد، فلا تنحدر لتتقوقع وتنعزل في حقول التخصص العلمي المحدد، الذي يمكنه أن ينتج نمط الشخصية العالـِمة بالمعنى التخصصي، الجاهلة بالمعنى الثقافي، والتي لا يندر أن يتماشى مستوى جهلها المعرفي مع درجة تخصصها العلمي، عندما تصبح في ظروف إغراقها وانغراقها في التخصص أجهل كلما صارت أعلم.

هذا النمط من الشخصية التخصصية، الذي يمثل حالة من حالات أحادية البعد التي تحدِث القطيعة ين الفرد والجماعة، بإلغاء بقية الأبعاد من شخصية الفرد وميدان نشاطه، وتقزّم بالتالي شخصيته أو تلغيها على المستوى العام، وبذلك تلغي- أو تختزل إلى أبعد الحدود- دائرة الشأن العام، التي تجري فيها العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين أفراد الجماعة في ما بينهم، وبين الجماعة مع نفسها كجماعة، وفي مثل هذا الوضع الذي يفقد فيه الإنسان شخصيته الاجتماعية، يصبح عاجزا عن اتخاذ الموقف العام من قضايا المجتمع والاجتماع، وعاجزا عن الفعل الاجتماعي، بل ومهددا بالسقوط في حالة النكوص الاجتماعي، والفعل القطيعي التقهقري التدميري، فإن عم هذا النموذج، وصلنا إلى حالة الشلل، بل وحتى الموت، المجتمعي والاجتماعي، وبالتالي الإنساني.

إن هذا النموذج من أحادية البعد المعرفي يمكننا تسميته بـ "التكنوقراط اللامعرفي"، وهو يحيلنا إلى مقولتين متلازمتين في العالم الرأسمالي الغربي المعاصر، وهما "نهاية التاريخ" و"الحكم التكنوقراطي"، الذي لا يعني هنا ذلك "التكتيك السياسي" المسمى "حكومة تكنوقراط"، المتبع مخرجا عند استعصاء تشكيل الحكومات في الخلافات السياسية الكبيرة أثناء الأزمات الحادة، بل المقصود هو "التكنوقراط الاستراتيجي" المطروح كبديل للديمقراطية، بعد أن "انتهى التاريخ" كعملية جدل ٍ وتغيرٍ وتطورٍ إلى "نظامه الأمثل"، وهو "الرأسمالية الحديثة" أو "النيوليبرالية" بزعم أصحابها.

هنا قد يبدو الطرح النزيه لمسألة التكنوقراط وكأنه يقول أنّ دور الديمقراطية كعملية اجتماعية سياسية متكاملة قد انتهى، بعد أن حققت الغاية المرجوة منها بالارتقاء بالمجتمع إلى درجة إنجاز النظام الاجتماعي الأمثل (أي الرأسمالية النيوليبرالية)، الذي لم يعد يقتضي المزيد من الجهد للعمل عليه، وينتقل العمل بالتالي إليه وفيه، ويصبح دور العمل هنا موجها ليس نحو  تعديله أو تطويره، أو تغييره عند الضرورة، بل- وباعتباره الأمثل- موجها نحو تفعيله كما هو بالشكل التفعيلي الأمثل، وهذا يحتاج الكفاءة الأعلى، كحال السيارة المثلى، التي يقتضي أداؤها الأمثل السائق الأفضل.

هذا الطرح يلغي الديمقراطية بكليتها كغاية، ويحولها إلى عملية مرحلية ووسيلة غايتها إنتاج الشكل الرأسمالي النيوليبرالي الأمثل زعما، الذي تنتفي فيه الحاجة إليها، والذي يفترض أن يعمل بأفضل الأشكال بواسطة التكنوقراط التخصصي، وبالطبع في مثل هذا النظام لا حاجة للإنسان العارف، ولا دور له، بعد أن انتهى دور "المعرفة العامة" بإنجازه كنظام ختامي، ليكون "خاتم الأنظمة"، الذي لا حاجة له وفيه إلا للتخصص، ولا مكان لديه للمعرفة الزائدة والترف الثقافي.

لكن طرح التكنوقراط هذا يمكن قراءته كـ"طرح مغرض"، بل وجد مغرض، تسعى فيه الرأسمالية لتكريس وتخليد نفسها، وليست غايتها منه الاستفادة القصوى من الكفاءة الرفيعة للتكنوقراط  التخصصي أو التقني، وهي ترمي إلى "التكنوقراط السياسي"، أو بالأدق "التكنوقراط المسيّس"، الذي تقتصر مهمته على العمل في حدودها، والسعي لإنجازها كنظام نهائي مزعوم بالشكل الوظيفي الأفضل، دون أية محاولة لتعديلها، أو تخطيها، أو تغييرها، وبالطبع لن يـُضمن هذا الأمر فقط بالشكل القانوني الذي يمنع التكنوقراط من تجاوز صلاحياته المقررة، فلتحقيق ذلك لا بد من جعل التكنوقراط بحد ذاته عاجزا عن تخطي صلاحياته، وحصر قدراته في إطار صلاحياته، ومنع امتلاكه أية قدرات زائدة، وهذا يقتضي حرمانه القدرة المعرفية الفعالة، ولكن هذا أيضا ما يزال وحده غير كاف، فلإقامة نظام حكم تكنوقراطي يعمل فيه التكنوفراط كمنظومة حكومية تحت سقف الرأسمالية، لا بد من تـَعْدِية عملية التكنقرطة المسيّسة إلى المجتمع أفرادا وجماعة ونظاما، وتجريده من رصيده المعرفي الثقافي، الذي يشكل القاعدة الارتكازية والمنطلقية، لوجوده كبنية اجتماعية قادرة على الأداء الديمقراطي والسياسي، وللقضاء على القدرة الديموقراطية للمجتمع، لا بد من تجهيل الفرد إلى "تكنوقراط لامعرفي"، وإفراغ المجتمع من الثقافة الحقيقية، وهذا ما تتكفل بتحقيقه الضغوط المتعاظمة الدافعة باتجاه التخصص العلمي، المؤطر بأطر براغماتية، بالترافق والتلازم والترابط مع نشر وتكريس ثقافة اللاثقافة الاستهلاكية، وتنمية روح الفردية الانفرادية إلى أبعد الحدود، وما يزامن ذلك من انسحاب قسري، وأحيانا طوعي للشخصية الثقافية الفاعلة، لتنعزل في معتكفها الثقافي، وتعتزل الحياة الاجتماعية في حالة نسك ثقافي يجعل المثقفَ نفسه "أحادي بعد من نوع غريب"; وهكذا تتم إعادة هندسة الفرد الاجتماعي والمجتمع وتدويرهما إلى "فرد إنفرادي"، ومـُنْفـَرَد بشري"، يفقد فيه الأفراد روح الجماعة ورابطة الاجتماع وقوة الفعل الجماعي، ويتحول فيه المجتمع إلى بيئة تكنوقراطية بيوميكانيكية، تدور في دوامة الانتاج والاستهلاك المفرغة، وتحكمها قوانين الغاب الرأسمالي المحصورة في شريعة"الربح" الضارية، وتتلاشى فيها روح الثقافة، وتتفكك آليات الديموقراطية، وفي المحصلة يقضى على "الاجتماع الإنساني" ويستبدل بـ"الكم البشري"، ويفقد قوة الديموقراطية وخطرها الحقيقي الأكبر على الرأسمالية الحديثة،، كون الديمقراطية الحقيقية نظام َ الفعل الاجتماعي القادر دوما على التغيير الاجتماعي وتغيير النظام الاجتماعي.

هذه الدعوة إلى الـ"تكنوقراط السياسي"، الذي تلغى فيه السياسة عمليا بدعوى انتفاء الحاجة العملية إليها، ووجوب الإرتقاء إلى "مستوى الإدارة"، الذي يكون فيه التكنوقراط فعليا "تكنوقراطا إداريا" محضا، هي في صميمها الرأسمالي دعوة سياسية، وجد سياسية، تسيـَّس فيها التكنوقراطية اللاسياسية بطبيعتها بشكل إرادوي إلى أقصى مدى لانتاج الحالة اللاسياسية في واقعها، المسيـَّسة في موقعها، لخدمة الرأسمالية وفوزها الكامل المخلـَّد بشكلها السوقي الأقبح، وإن نجحت في هذا فهي لن تكون"نهاية التاريخ" بمعنى "منتهى التاريخ"، بل ستكون "انتصار السوق"، و"هزيمة الثقافة"، لينقضي بذلك التاريخ بـ"موت التاريخ"، وموت "المجتمع"، و"الاجتماع"، و"الإنسان"، وبالسقوط الهاوي من "الأنسنة" إلى "السوقنة"، وإنتاج "الاستهلاك" بدلا من "الثقافة"، والانتهاء إلى "الإنسان السلعة"، "الإنسان الهالك"، بدلا من "الإنسان العارف الفاعل".

وهكذا يتضح الدور الجوهري للثقافة، المتمثل في حمايتها المعرفة بإبقائها في أبعادها الإنسانية، ومنع تحولها إلى مجرد "تخصص" و"علم" بلا أخلاق، وارتباطا بذلك تتم حماية المجتمع من التحول إلى "سوق" استسلاع واستهلاك بلا ضمير، وبذلك تحمي الثقافة الإنسان من فقدان عرفانيته وفاعليته، وتبقيه في المحصلة إنسانا.

أما المثقف فهو ليس "العالـِم" على مستوى التخصص، وعلى مستوى الشخصية الفردية في أضيق مساحات فرديتها الانعزالية، بل هو "العالـِم" على مستوى المعرفة ببعدها الإنساني الاجتماعي، وليس التقني الخدمي، وعلى مستوى الشخصية الفردية الاجتماعية في موقعها التكاملي مع المجتمع وبأبعادها الاجتماعية اللامحدودة.

إن بقاء الإنسان إنسانا يقتضي ديمومة المجتمع المعرفي الديمقراطي، الذي لا يكون مجتمعا إلا بما هو كذلك، وهذا مرهون باستمرارية وتطور الثقافة، لكنه مهدد بخطر "السوقنة" الداهم، الزاحف بشكل مسيس وغير مسيس على شكل انقلاب "تكنوقراطي سوقوي"، "ضد معرفي" و" ضد ثقافي".

السوق اليوم قوة هائلة دفعها انفلاتها إلى التغوّل والتوحش، وهي تستعبد الاقتصاد، وتشهر أسلحة ثقافة اللاثقافة والتكنوقراط اللامعرفي في هجومها على المجتمع، ولا يمكن إعادة ترويضها وضبطها إلا بقوة الثقافة والديمقراطية لإعادتها إلى مكانها الصحيح في خدمة المجتمع، ووضعها في موقعها كجزء و كوظيفة في الآن الاجتماعي و المجتمعي، و منعها من الانمساخ إلى هوية كلية دائمة للعالـَم البشري، وهذه هي مبدئيا مهمة "الإنسان الثقافي"، الذي يـُفترض وجوده وتموقعه في كل موقع من مواقع الحياة، وهذا ما هو اليوم غير محقق فعليا، مما يعني واقعيا  ضرورة تضافر جهد المثقف – بالمفهوم الظرفي للمثقف – مع كل فاعل إنساني آخر في مختلف المواقع.

هذه هي رسالة الثقافة ومهمة المثقف في الفعل الحيوي، الذي يحافظ على عملية الأنسنة في الاجتماع في المجتمع، ويحمي المجتمع من الانمساخ إلى بازار، والحياة إلى استهلاك، والإنسان إلى أداة عديمة الذات والقدر إنسانيا بالنسبة لنفسه وغيره، ولا قيمة له إلا بمدى صلاحيته للاستخدام والاستهلاك السلعي، وبذلك يصون هذا الفعل الثقافي استمرار وتطور إنسانية الإنسان كذات فردية وجمعية عارفة فاعلة شاملة.

إن الإنسانية هي حياة في معرفة واجتماع ومجتمع، وهي ثقافة متجددة، وتاريخ دائم، وبدلا من السعي إلى نهاية للتاريخ، هي البحث المستدام فيه وفي ذاتها عن بدايات جديدة وآفاق لا تنتهي.

*
*
رسلان عامر
‏14‏/3‏/2017
 *
منشور في مجلة المعرفة\العدد 652\ كانون الثاني-2018

 *



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق