فهرس المحتويات

الخميس، 7 نوفمبر 2019

الحل الإسلامي بين سلفية التقليد وتحديات العصر


الحلّ الإسلاميّ بين سلفيّة التّقليد وتحديّات العصر


رسلان عامر     





ملخّص البحث:


تعدّدت ومازالت تتعدّد الحلول المطروحة للخروج من معضلة التّخلف المتجذّر والشّامل في الواقع العربيّ إلى المسار الحضاريّ السّليم، ويبدو "الحلّ الإسلاميّ" بينها الأكثر ترويجا اليوم، فهو من ناحية يستغلّ فشل المشاريع الأخرى: العروبيّ والاشتراكيّ والوطنيّ، ومن ناحية ثانية وهذا هو الأهمّ- يعتمد على عمق وسعة حضور الإسلام  كدين واستمراره في البيئة العربيّة الشّديدة التّدين.

وهذه الدّراسة تناقش أطروحة "الحلّ الإسلاميّ" التّقليديّة، وتبيّن أنّه ليس طرحا إسلاميّا جوهريّا أصيلا، بقدر ما هو رؤية إسلامية ماضويّة، تشكّل امتدادا مسيّسا في الحاضر لعصر الانحطاط المتمثّل أساسا بالنّموذج الإسلاميّ المملوكيّ والعثمانيّ، البعيد عن النّموذج الحضاريّ في العهود الراشديّة والأمويّة والعباسيّة، ولذا فهو بهذا الشّكل المتخارج مع طبيعة عصرنا الرّفيعة في مستويي العقل والعلم يعتبر تكريسا للمشكلة، وليس سبيلا للحلّ؛ أما الحلّ الحقيقيّ فله أكثر من شكل ممكن، ومن بينها من حيث المبدأ "حلّ إسلاميّ  تنويريّ عصريّ"، يقدّم الإسلام في صورة عصريّة جذريّة، متوافقة مع العقل والفكر والخـُلق والعلم في العصر الحديث وفق خصوصيّة إسلاميّة أصيلة مرنة، أو حلّ واقعيّ مدنيّ يقوم على الفصل بين الدّولة والدّين، في إطار ثقافيّ منفتح، يمكنه أن يوفّر إمكانيّة نموّ ثقافة إنسانيّة عصريّة، تتجاوز التّخلف المتأسلم المقرون وهما وعسفا بالإسلام.

ويتمّ في هذه الدّراسة تحديد قوى الإسلام السّياسي وتصنيفها في أشكالها ومواقعها المختلفة، والنّظر في مواقفها السّياسية المختلفة، ومناقشة علاقتها بالإسلام الحقيقيّ، وبيان أنّها علاقة غير أصيلة وإنّما ظرفية عارضة.

كما يتمّ التّركيز على المحاور الإشكاليّة الأساسيّة لأطروحة الحلّ الإسلاميّ التقليديّة وأهمّها: ميتافيزيقيّة المنهجيّة المنفصلة عن الواقع ذي الطّبيعة الزّمنيّة المتغيّرة؛ واعتماد نظام عقائديّ مغلق ومطلق المرجعيّة لا يستجيب لمقتضيات الواقع بقدر ما يفرض نفسه قسرا عليها؛ ومذهبَة الدّولة المانعة لتشكّل هويّة وطنيّة شاملة ولاعتماد مبدأ مواطنة عادلة؛ واللّجوء إلى العنف أو التّحاصص أسلوبا لتحقيق الأغراض، والأوّل هو زجّ للمجتمع في صراعات مدمّرة، أما الثّاني فهو تكريس لواقع التّخلف.

وتخلص هذه الدّراسة إلى ضرورة اعتماد "الحلّ المدنيّ" القائم على فصل الدّولة عن الدّين، مع التّركيز على تحرّره من الإيديولوجية  أو التسييس، وعلى كونه طرحا عقلانيّا وعلميّا محضا. 


محتويات الدّراسة:


مقدّمة

الفصل الأوّل- الإسلام السّياسي بين المفهوم والمدلول:

1.1- نماذج الإسلام السّياسيّ

2.1-  العلاقة بين الإسلام السّياسيّ والإسلام الأصيل

3.1-  المشترك والمختلف بين دعاة الإسلام السياسيّ

 الفصل الثّاني- إشكاليّات الإسلام السّياسيّ:

1.2- إشكاليّة المنهج الفكريّ

2.2- إشكاليات المعنى السّياسيّ:

1.2.2- في مجتمع تعدّديّ عقائديّا

2.2.2- في مجتمع إسلاميّ محض

3.2- إشكاليّة المحتوى المبادئيّ

4.2- إشكاليّة الواقع التّطبيقيّ

الفصل الثّالث- مقارنة مشروع الحلّ الإسلاميّ التّقليديّ مع البدائل الممكنة:

1.3- هل من بديل؟

2.3- ماذا يمكن أن يخسر المسلم في الدّولة المدنية؟

3.3- أهو خوف المسلم من الإقصاء والتّهميش؟

4.3- الإنسان أولا أم الدّين؟!

خلاصة



 مقدّمة:


يمرّ العالم العربيّ اليوم بمرحلة  خطيرة، فبعد عقود من الجمود الحافل بالتّناقضات والتّوترات المتراكمة المتفاقمة الحادّة، كان لا بدّ أن يأتي اليوم الذي تبلغ فيه هذه التّراكمات ذروتها، وتصل إلى نقطتها الحرجة التي يصبح فيها التّغيير حتميّة لا مفرّ منها، وهذا ما تجلّى في ثورات الرّبيع العربيّ، التّي بدأت شعوبها فيها تتلمّس طريقها إلى عالم جديد.

وفي هذا الطّريق إلى العالم العربيّ الجديد تطرح اليوم مشاريع شتّى، منها الصّريح ومنها الخجول، وأعلى هذه المشاريع صوتا هو المشروع الإسلاميّ الّذي يتبنى شعار "الإسلام هو الحلّ"، معتمدا على عمق الإسلام التّاريخي ومدى انتشاره وتجذّره في البيئة العربيّة الّتي ما تزال شديدة التّدين، وقد استطاع أنصار هذا الطّرح الوصول إلى السّلطة بدرجات وأشكال مختلفة في  أكثر بلدان هذا الرّبيع.

وبالمقابل بتنا نسمع اليوم صوتا لم يعد خجولا، وإن لم يكن مجلجلا كصوت المشروع الإسلاميّ، وهو صوت أنصار الدّولة المدنيّة بشعار "الفصل بين الدّولة والدّين"، ورغم أن هذا الطّرح ما يزال يبدو شديد البعد عن إمكانيّة التّحقيق على أرض الواقع، فحضوره بحدّ ذاته هو مؤشّر إيجابيّ هامّ، فعمليّة بناء الدّولة المدنيّة ليست وصفة جاهزة للاستيراد والتّطبيق، ولكنّها عمليّة بناء طويلة الأمد.

وبين الحلّين الإسلاميّ والمدنيّ، نجد حلّا وسطيّا يمكن تسميته بـ"حلّ الدّولة الهجينة"، وهي الدّولة الّتي تتّخذ شكلا مدنيّا، ولا تتبنّى الشّريعة الإسلاميّة بشكل مباشر، بل تجعلها المصدر الأساسيّ للتّشريع، بحيث لا تتبنّى قوانيناً تخالف الشّرع الإسلاميّ. وبقدر ما يبدو هذا الطّرح في اللّحظة الرّاهنة أكثر واقعيّة من سابقيه، فهو يُنتقد معتبـَرا التفافا على الاستحقاق المدنيّ الدّيمقراطيّ، وتهرّبا من وجوبه، ومصادرة لجذريّة الحلّ بإدخالها في كواليس خلط ومحاصصة، تفرغها من جوهرها الحقيقيّ.

وعدا ذلك، ما نزال نسمع بدرجة أو بأخرى الأصوات القوميّة العربيّة، والأصوات الاشتراكيّة، وصرنا نسمع أكثر، وبقوة أحيانا، أصوات الأقليّات القوميّة الأخرى، وهلمّ جرّا..

وفي هذه الدّراسة، سنتناول "المشروع الإسلاميّ"، الّذي تطرحه وتتبناه قوى الإسلام السّياسيّ، ونبحث في قابليّته لأن يكون مشروع حلّ حقيقيّ، ونقارنه مع البدائل المحتملة، وبالأخصّ "المشروع المدنيّ"، لأنّ كلّا منهما يتخذّ موقفه الجذريّ الواضح من العلاقة بين الدّولة والدّين.



 أولا- الإسلام السّياسيّ بين المفهوم والمدلول:


عند البحث في أيّة مسألة، والكلام عن أيّة قضيّة، يجب علينا قبل كلّ شيء أن نحذر من "لعبة المصطلحات والمفاهيم"، وأن نكون دقيقين في اختيارها وتحديد مضمونها، وإلّا فنحن مهدّدون بالتّعامل مع مسائل فضفاضة الحدود.. وزئبقيّة الطّابع، وسنكون كالرّامي الّذي لا يجيد التّصويب، ولذا عند الحديث عن "الإسلام السّياسيّ"، فمن الضّروريّ التّمييز بين أصناف قوى الإسلام السّياسيّ والتّباينات بينها، والتّساؤل الصّعب عن مدى قربها أو بعدها عن الإسلام الحقيقيّ.

  1- نماذج الإسلام السّياسيّ:


 أولا: التّنظيمات العنفيّة الّتي تمارس الإرهاب والتّكفير، وتسعى لإقامة دولتها الإسلاميّة المزعومة بحدّ السّيف ونار البندقيّة، على غرار القاعدة وطالبان وداعش وأشباهها، وهذه بالطّبع تمتلك مشروعها السّياسيّ بما تعنيه السّياسة هنا من عملية حكم أو وصول للحكم، ولكنّها لا تعتمد من أجل تحقيقه وتطبيقه على اللّعبة السّياسيّة السّلميّة، القائمة على المنهج السّلميّ في الجدل والتّعالق مع الآخرين وإدارة الخلافات والسّعي إلى الأهداف، فمبدؤها الوحيد هو تحقيق غايتها وتطبيق برنامجها بالعنف وحده، الّذي يعني إلغاء الآخرين إمّا بإخضاعهم أو بالقضاء عليهم؛ ومن المهمّ جدّا هنا التّمييز الحذر بين هذه التّنظيمات وبين تنظيمات أخرى مسلّحة ذات طابع إسلاميّ، لا تسعى إلى إقامة دولة إسلاميّة، ولا تمارس التّكفير بحقّ غيرها، وهي "التّنظيمات الجهاديّة"، فرغم التّشابه بحمل السّلاح والارتكاز الجذريّ على الإسلام، إلّا أن الغايات والوسائل مختلفة، فالفصائل الجهاديّة، على غرار بعض التّنظيمات الفلسطينيّة مثلاً هدفها مواجهة العدوان، وليس العدوان على الآخرين وقهرهم أو إلغاؤهم، وبالتّالي شتّان بين المجاهد الّذي يتبنّى الإسلام ويحملّ السّلاح لمحاربة المعتديّ، والتّكفيريّ الّذي يفعل ذلك للاعتداء على الآخر والقضاء عليه أو إخضاعه، وبناءً على ذلك يمكن القول هنا أن الفصل ممكن بين هذه الظّاهرة الّتي نستطيع تسميتها بـ "الإسلام الجهاديّ"، وظاهرة "الإسلام السّياسيّ" المرتبطة بفكرة إقامة "الدّولة الإسلاميّة"، وهذا ما نتحدث عنه.

ثانيا: الكتل والشّخصيّات السّياسيّة المستقلّة تنظيميّا، والتّنظيمات السّياسيّة وشبه السّياسيّة الّتي تقبل باللّعبة السّياسيّة السّلميّة بدرجة أو بأخرى، على غرار حركة النّهضة التّونسيّة وحركة الإخوان المسلمين، وحزب النّور المصريّ، وما شابه، بالرّغم من أنّ أكثر هذه الأحزاب والحركات، ما زال يتأرجح بين السّياسة السّلميّة والعنف الفكريّ والعنف الماديّ، وكثيراً ما ينزلق إلى مستوى الجريمة!

   ثالثا: يمكن أيضا تعميم مصطلح "الإسلام السّياسيّ" ليشمل كلّ القوى والفعاليّات والشّخصيّات الإسلاميّة الّتي لا تمارس العمل السّياسيّ بمفهومه الحكوميّ أو الحزبيّ أو الحركيّ أو الإيديولوجيّ التّقليدي المباشر، والّتي ترفض مبدأ فصل الّدين عن الدّولة، وتستطيع التّأثير في هذا الشّأن.

 وتوخيّاً للدّقة سنطلق على النّوع الأوّل، الّذي لا يقوم إلّا على إلغاء الآخر، ولا يعترف إلّا بالعنف وسيلة للتّعامل مع الغير، وسبيلاً لتحقيق الأهداف، حتّى لو كان عنفاً إجراميّاً، تسمية "الإسلام السّياسيّ المسلّح"، الّذي يمكن أيضا تسميته بـ "الإسلام السّياسيّ التّكفيريّ"؛ وعلى ما يندرج في عداد الأحزاب والحركات والجبهات، ومن يمارس العمل السّياسيّ السّلمي المباشر، وما شابه، تسمية "الإسلام السياسي المؤدلج"؛ وعلى الفعاليات والقوى ذات الطابع الإداري أو الأهليّ أو المجتمعيّ وما شابه من المتشبـّثين بربط الدّولة بالدّين، تسمية "الإسلام السّياسيّ العرفيّ"، أو "الإسلام السّياسيّ الأهليّ"، وبالطّبع الفصل القطعيّ بين هذه الفرق الثّلاث أمر غير ممكن، فهي جدّ متداخلة والحدود بينها جدّ فضفاضة. 

وفي هذه الدّراسة لن نقوم بنقد تفصيليّ لبرنامج أيّ حزب أو حركة أو جهة محدّدة، بل سنتكلم في الموضوع بشكله العامّ، وسنورد بعض الأمثلة المحدّدة عندما يقتضي الأمر.

 2- العلاقة بين الإسلام السّياسيّ والإسلام الأصيل:   


من الضّروريّ هنا الإشارة إلى نقطة في غاية الأهميّة، وهي أنّ كلّ الأصناف المذكورة من الإسلام السّياسيّ هي في المحصّلة مفرزات لنمط تقليدي من الإسلام ظهر في ظروف تاريخيّة ماضويّة محددّة، وتحديدا في عصر تقهقر العالم الإسلاميّ ممثلاً بأواخر الفترة المملوكيّة وبمجمل الفترة العثمانيّة من التّاريخ الإسلاميّ.

كما أنّه من الضّروريّ أيضاً التّنويه أنّ مصطلح "الإسلام" هنا لا يجب قصره بتاتاً على المفهوم الدّينيّ، فالحديث هنا يدور عن الإسلام بصفته المتكاملة كدين ودولة ومجتمع وثقافة.

ومن الضّروريّ أيضاً التّنويه أنّ مصطلح "سلفيّ" الذي ستستخدمه هذه الدّراسة، لن تستخدمه في سياق واحد، بل مميـَّزا فيه بين شكلين من السّلفية، وهما سلفيّة عصر الحضارة، وهي عموماً تشمل العهود الرّاشدية والأمويّة والعباسيّة، وسلفيّة عصر الانحطاط، الّتي أشير إليها أعلاه، و قد تميّزت الأولى منها بحضور قويّ وفعّال للعقلانيّة فيها بعكس الثّانية.

  وبالعودة إلى النّمط التّقهقريّ، يمكن القول أنّه ساهم بشكل كبير- وما زال يفعل ذلك- في تكريس ظروف ديمومته واستمراريّته بدون أيّ تطور يذكر، ليصل بنا إلى واقع ينتمي شكليّاً إلى الحاضر، ولكنّه بذهنيّته وأخلاقيته وتقاليده ما يزال غارقاً في الماضي، وهذا يستوجب طرح السّؤال عن مدى تطابق هذا النّموذج الإسلاميّ مع الإسلام الحقيقيّ، أو الإسلام الأصليّ، بما أنّ هذا النّموذج وصلنا في محصّلة سيرورة تاريخيّة إسلاميّة، كان الإسلام في مرحلتها المديدة الأولى كائناً تفاعليّاً تطوريّاً، إلى أنّ وصل إلى حالته الرّاكدة في المرحلة التّالية، وهي الّتي وصلتنا بعد فقدانها للتّفاعليّة والتّطوريّة، بل ومع تدنّي حتّى قابليّتها على التّغيير.

مّما لاشكّ فيه أنّ السّؤال عن "الإسلام الأصليّ" هو بحدّ ذاته سؤال جدّ شائك، فالإجابة عليه ستضعنا في النّهاية في "مأزق الفرقة الناجيّة"، وهو مأزق لم تخرج منه المذاهب الإسلاميّة من بواكير التاّريخ الإسلاميّ وحتّى اليوم، وليس ثمّة ما يشير إلى خروج على المدى المنظور.

لكن عند مقاربة الإسلام بمنطق عقلانيّ وليس بذهنيّة إيمانيّة تقليديّة، يمكن القول أنّه ليس هناك من حيث المبدأ نسخة مذهبيّة أصليّة من الإسلام، وهي لم توجد ولن توجد، وهذا أمر طبيعيّ، ومع أنّ كلّ مذهب إسلاميّ يدّعي لنفسه الأصالة، فكلّ هذه المذاهب نشأت وتطوّرت في سياق صيرورة تاريخيّة خاصّة مؤاتية، وكما يقول الباحث أوليفيه روا: " ليس من الحصافة الفكريّة في شيء أن نعالج العلاقات بين الإسلام والسّياسة كما لو كان ثمّة إسلام أزليّ مفارق للزّمن، فضلا عن أنّ ذلك يكون خطأ تاريخياً" [1] ، وكلّ مذهب من هذه المذاهب أعطى شكلاً من القراءة المختلفة لكلّ من المصادر الإسلاميّة ممثّلة بالقرآن والحديث، وللمرجعيّات الفقهيّة اللّاحقة في موقعها الزّمنيّ والملليّ بالنّسبة لكلّ من هذه المذاهب؛ هكذا نشأت السّنة بمذاهبها، والشّيعة بفروعها، والباطنيّة بطوائفها، والصّوفية بطرائقها، وأهل الكلام والفلاسفة بمدارسهم، وهلمّ جرى، وهذا تمّ في مراحل زمنيّة وظروف موضوعيّة مختلفة [2] ، وهذه المذاهب على كلّ ما بينها من خلافات كبيرة وصغيرة، كلّها تشكل نماذجاً إسلاميّة، ولا تستنفذ قطعاً إمكانيّة المزيد من النّمذجة والمذهبة.

وكلّ من هذه المذاهب تجمعها اليوم صفة مشتركة وهي ماضويّتها، فجميعها ما تزال تتقمّص شخصيّات أجدادها المتأخّرين، رغم أنّها تبدو ظاهريّاً وكأنّها خلعتها وارتدت أثواباً معاصرة، وإذا ما طرحنا هنا السّؤال عمّا هو الإسلام، فالجواب الواقعيّ هو أنّه ليس هناك "إسلام مطلق"، بل هناك دائما "إسلام نسبيّ" ممثل بالواقع الإسلاميّ في كلّ لحظة من تاريخه، وقابل للتّغير والتّبدل، وبالتّالي يمكننا القول أنّنا دائماً أمام ظواهر إسلاميّة، ظواهر ظرفيّة مهما اتّسعت في التّاريخ والجغرافيا والكمّ البشريّ، وبناء عليه يمكن القول بالعبارة الصّريحة أن كلّاً من السّنة والشّيعة والباطنيّة والصّوفية والمتكلّمين والفلاسفة المسلمين وسواهم، هم عبارة عن ظواهر إسلاميّة، وليس بينهم من يستطيع أن يثبت أنّه وحده هو الإسلام الأصليّ أو الأكثر أصالة، فالإسلام الأصليّ هو بحدّ ذاته مجموعة من المبادئ الدّينية الكبرى القابلة دوماً للقراءة في جدلية العقل والحرف والظرف قراءات مختلفة، وإظهارها بتفاصيل متعدّدة [3] ، وهذا يعني أنّه يمكن القول عن تلك المذاهب وسواها من مذاهب المسلمين بأنّهم جميعهم "هم إسلام"، ولكن لا أحد منهم "هو الإسلام".

وفي هذه الدّراسة، عندما يتمّ الكلام عن المرجعيّات الإسلاميّة وأصول التّشريع، فالمقصود بهذا ليس القرآن والحديث بشكل مجرّد، بل وفق قراءاتهما المذهبيّة [4] ، وهذا يعني أنّه عندما يتمّ نقد أصول التّشريع الّتي يعتمد عليها اليوم الإسلام السّياسيّ صاحب مشروع الحلّ الإسلاميّ، فالمقصود بهذه الأصول هو القرآن والحديث وفق فهمها السّلفيّ التّقليديّ المتأخّر، والمقترن بمرحلة تدهور الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو فهم لا يستنفد قطعاً إمكانيّة فهم أكثر حداثة في إطار أهل السّنة أنفسهم أو غيرهم من المذاهب الأخرى، أو في أطر حديثة كليّا تتخطّى المذاهب التّاريخيّة التّقليديّة، وهذا ما ستطرحه هذه الدّراسة كأحد بدائل الحلّ الممكنة نظريّاً للحلّ الإسلاميّ التّقليديّ، القائم على الفهم السّلفي المتأخّر للإسلام.

3- المشترك والمختلف بين دعاة الحلّ الإسلاميّ:


إنّ ما يجمع قوى الإسلام السّياسيّ عموماً هو مبدأ "التّأسيس الإسلاميّ القاعديّ" لعمليّة بناء المجتمع والدّولة، أيّ بناء الدّولة والمجتمع على قاعدة هي الإسلام، وكلّها بشكل عامّ ترفض بقوّة فصل الدّين عن الدّولة.. ويذهب أغلبها، ولاسيّما المسلّح والمؤدلج منها أبعد في ذلك، في طرح "مبدأ الحلّ الإسلاميّ" الشّامل، أو "فكرة تطبيق الشّريعة الإسلاميّة" بحذافيرها وإقامة الدّولة الإسلاميّة الدّينيّة، وهم يرفضون بشدّة أيّ بديل آخر لحلّهم سواء كان قوميّاً أو اشتراكيّاً أو ليبراليّاً أو غيره، ويعتبرونه شكلاً من أشكال المؤامرة على الإسلام، وهذا ما يعبّر عنه مثلاً عبد المنعم مصطفى حليمة أبو بصير، فيقول: "إن معركة الإسلام مع الدّيمقراطيّة لم تُحسم بعد كما حُسمت من قبل معركته مع الاشتراكيّة، والقوميّة، والوطنيّة وغيرها من الشّعارات الوثنيّة الّتي تحطّ من قدر الإنسان وقيمته.. فالدّول الصّليبيّة الكبرى تعمل – بكلّ ما أوتيت من قوّة ووسائل– على فرض دين الدّيمقراطيّة على الشّعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، فمن لا يأتي معها بالتّرغيب والإغواء يأتي معها بالتّرهيب واتـّباع سياسة الحصارات والتّجويع ..! فهم لمّا عجزوا عن إبعاد النّاس عن دينهم وإدخالهم في النّصرانيّة الصّليبية صراحة، سهل عليهم إدخالهم في دين الدّيمقراطيّة، وكان لهم ما أرادوا وهو إبعاد الناس عن دين الله تعالى..!"[5]

 إلاّ أنّ بعض دعاة الحلّ الإسلاميّ يقبلون في بعض الأحيان فكرة عدم إقحام الدّين بشكل مباشر في الحكم، ويرضون بنظام حكم يستند على خلفيّة إسلاميّة؛ ومن المفيد هنا أن نذكر الجدل الّذي دار أثناء إعداد الدّستور المصريّ خلال فترة حكم محمّد مرسي، وقبول بعض الوسطييّن الإسلامييّن بإدراج فقرة في مطلع الدّستور فحواها أن "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساسيّ للتّشريع"، فيما أصرّ المتزمّتون الإسلاميّون على استخدام عبارة "أحكام الشّريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساسيّ للتّشريع"، والفرق جدّ واضح بينهما، فالطّرح الأوّل يعني الأخذ بالشّريعة وفقا لمعناها ومقصدها، فيما يعني الثاني الأخذ بها بحرفيّتها وشكلها المحدّد، والبون جدّ واسع في المفاعيل الّتي يمكن أن تنشأ عن كلّ منهما، وبين هذا الطّرح وذاك غابت تماماً فكرة الدّولة المدنيّة الصّريحة، وهذا ما غاب تماماً عن الطّرح في مصر خلال فترة "الرّبيع المصريّ".. قبل أن تنقضّ عليها "الثّورة العسكريّة المضادّة" بزعامة عبد الفتاح السّيسي؛ والعبرة الّتي يمكن استخلاصها في عجالة مّما جرى على السّاحة المصريّة.. هي أنّ إصرار الإسلاميّين على إقحام الدّين - وبشكله التّقليدي- في السّياسة، واستنادهم على ولاء أكثريّة الجماهير (المزعوم)، أرهب القوى المدنيّة، وجعلها تفضل الاستبداد العسكريّ على السّيف التّكفيري الّذي بات يلوح في الأفق مما سهّل عودة العسكر، ولكن مع العودة السّهلة للعسكر إلى سدّة الحكم تبيّن مدى هشاشة التأييد الشّعبي المتوهّم للقوى الإسلاميّة المسيّسة، وهذا شطر ثانٍ من العبرة يجب قراءته في الاتجاه المعاكس.

  وفيما يلي سنحاول بإيجاز بيان أهم إشكاليّات أطروحة "الحلّ الإسلاميّ" عبر التّركيز على  إشكاليّات حاضنه كمشروع، أيّ الإسلام السّياسيّ، وبالأخصّ "المؤدلج" منه، من حيث المنهج الفكريّ المتّبع في طرح المشروع، والمعنى السّياسيّ المرتب على هذا الطّرح، والمحتوى المبادئيّ الخاصّ به، والواقع التّطبيقيّ المتاح أمامه، وسنقوم بمقارنة بسيطة بين هذا الطّرح والطّرح المدنيّ البديل.


ثانياً- إشكاليّات الإسلام السّياسيّ ومشروعه الإسلاميّ:


1- إشكالية المنهج الفكريّ:


يعتمد متبنّو الإسلام السّياسيّ على منهجيّة غير علميّة في قراءة التّاريخ والاجتماع البشريّ،  ولا ينظرون إلى المشاكل الواقعيّة في إطارها الموضوعيّ.. أو يبحثون عن العوامل المختلفة الكامنة وراءها في أرض الواقع، ولا يسعون إلى الحلّ القائم على تحليل المشكلة ومعرفة أسبابها.. وطرح الحلول المنطقيّة لها بناء على التّحليل والمعرفة، فهم يتعاملون مع الواقع بأسلوب إيمانوي fideistic)) [6]، وجذر جلّ مساوئ الواقع يعود لديهم إلى أسباب دينيّة محض [7].. تنحصر في إطار عدم التزام النّاس بالعقيدة، وعدم تطبيق أخلاق وأحكام الشّريعة، فإذا تديّن النّاس بالشّكل الصّحيح، فسيقضى - برأيهم- على جذر المشكلة، وستصلح الأخلاق والعقل، وستزول العقبات من أمام العلم، وستنظم المبادئ الشّرعيّة أسس الدّولة والمجتمع [8]!

وهذا الطّرح (شبه الرّومانسيّ) كثيراً ما يدعم نفسه بالاستشهاد بالنّهضة الّتي حقّقها العرب المسلمون وبالحضارة الّتي بنوها، وبديمومة تطبيق الشّريعة منذ الهجرة النّبوية وحتّى انهيار السّلطنة العثمانيّة، وهم في هذا الطّرح يتجاهلون معظم العوامل التّاريخيّة والموضوعيّة الفاعلة على مدى هذا الزّمان الطّويل، ومنها أن خلفاء وأمراء وسلاطين هذا التّاريخ المديد كانوا رجال دولة ولم يكونوا رجال دين، والكثيرون منهم كانوا قادة عظماء حقيقيّين، وكونهم رجال دولة وقادة لم يكن مرتبطاً حصريّاً بكونهم مسلمين، وهم حين استخدموا علوم ومعارف عصورهم على كافّة الصّعد بنوا حضارة، وحين نكصوا عنها (كما جرى في المرحلة العثمانيّة مثلاً) دمّروا ما سبق إنجازه، هذا عدا الصّراعات على السّلطة الّتي بدأت من فجر الإسلام، والصّراعات المذهبيّة، وحالات التّكفير الّتي لا تعدّ بحقّ العلماء والمفكّرين، وفي المحصّلة نجد أنّنا أمام حقيقة لا مفرّ من مواجهتها، وهي أن حضارتنا نشأت ونحن مسلمون.. وانهارت ونحن مسلمون، وصحيح أن قسماً من التّاريخ الإسلاميّ هو تاريخ تقدّم حقيقيّ، ولكن قسماً يعادله هو تاريخ جمود، وثالثاً يماثلهما هو تاريخ انحطاط وتقهقر، وبالتّالي يحقّ لنا السّؤال عن الدّور الحقيقيّ للإسلام في نشأة وتطوّر هذه الحضارة، وهي الّتي انهارت ليس بسبب ارتدادها عن الإسلام، ولم يحمها إسلامها من الانهيار! وهنا ألا يمكننا مقارنة هذه الحضارة في المحصلة بحضارات أخرى كحضارة الرومان واليونان والفرس والصّينيّين والمصريّين القدماء وسواها، ممّن لم يكن لديهم دين سماويّ مفترض؟!

ممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ حضارة خصوصيّتها، وأنّ قيامها يعتمد على مجموعة من العوامل الموضوعيّة غير المفتعلة، المرتبطة بزمانها ومكانها وظروفها، والّتي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال إعادة استنساخها في مكان أو زمان أو ظرف مختلف.

وبالنّسبة للحضارة العربيّة الإسلامية، كان الإسلام بلا شكّ عاملاً أساسيّاً في قيام هذه الحضارة، الّتي طبعها بطابعه عبر كلّ مراحل تاريخها.

وهذه الحضارة، مثل كلّ حضارة- ما كانت لتقوم، لولا وجود الدّولة المناسبة، فالدّولة شرط لازم وغير كافٍ لقيام الحضارة، إذ ليست كلّ دولة بنـّاءة حضاريّاً، والإسلام كان له الفضل في قيام الدّولة بحدّ ذاتها، وفي قيامها بالشّكل الّذي يمكنها فيه أن تكون دولة صانعة للحضارة.

فقد كان الإسلام المحرّك الأوّل الّذي حرّك ونظّم ووجّهه القوّة البشريّة، الّتي انطلقت من حالة بدويّة ونصف بدويّة لتبني دولة، وهو الّذي أمدّ هذه الّدولة بالرّوح المعنويّة اللّازمة لجعلها دولة قادرة على البناء الحضاريّ، وهيّأ المناخ الثّقافيّ المناسب لظهور قيادات حقيقيّة، يمكن تسميتها بدون أيّ تردّد بـ "رجال دولة حقيقيّين"، رجال دولة أدركوا أنّ الدّولة لكي تكون دولة حضاريّة عظيمة لا يمكنها أن تكون دولة دينيّة محض، وأن أيّ دولة في قيامها تحتاج إلى مقوّمات أساسيّة (دنيويّة) أيّاً كان دينها، وإلى معرفة بشؤون الحكم  والسّياسة والقيادة والإدارة، وأنّ أيّة حضارة لا تصنع إلا بالعقل والعلم، ولذا لم يتوانَ أولئك القادة عن الاستفادة من تجارب الأمم الّتي كانت لها أسبقيّة في بناء دول وحضارات كاليونان والرومان والفرس والهنود وسواهم، وأخذوا عنهم كلّ ما وجدوه صالحاً سياسيّا وفكريّا وعلميّا.

 لقد كان الإسلام منذ بدايته كدعوة وحتّى مرحلة متقدّمة من تاريخه كدولة، ملحمة من أعظم ملاحم التّاريخ الإنسانيّ، ولكنّ هذه الملحمة انتكست، ثم انهارت حضارياً وتقهقرت، ولم يحدث هذا نتيجة ارتدادها عن دينها، فقد صعدت الحضارة العربيّة الإسلاميّة بدين هو الإسلام، ثمّ انهارت والإسلام ما يزال دينها، ولم يضمن حفاظها على الإسلام استمرارها ويمنع انهيارها، وهذه تبدو مفارقة جدّ غريبة!

وهنا لا بد من طرح السّؤال الأكثر حساسيّة عن السّبب الّذي جعل الإسلام في المرحلة الأولى قادرا على أن يكون قوّة خلّاقة، وعاجزاً في المرحلة التّالية عن مواصلة التّخليق، بل وحتّى عن حماية وصيانة ما سبق وأنجزه من حضارة.


ويمكننا هنا أن نقدّم جواباً مختصراً، وهو أنّه في المرحلة الأولى كانت (المؤسّسة القياديّة الإسلاميّة) تتّمتع بميـّزتين، وهما غلبة العقل وعدم غلبة الفساد - بالمعنى السّياسي- عليها، ومع نموّ الدّولة وتعقـّد أوضاعها آلت الأمور في النّهاية إلى نتيجة معاكسة، فغلب الفساد وتراجع العقل، ويمكن القول أيضا أنّ تراجع العقل -بحدّ ذاته- عائد بشكل أساسيّ إلى تنامي الفساد السّياسيّ، وهذا بالطّبع لم يحدث خلال فترة وجيزة من الزّمن، بل امتدّ على مدىً زمنيّ طويل بين مدّ وجزر في صراع القوى المتناقضة، إلى أن حسم لصالح الفساد والّلاعقلانية، الّتي أدّت في النّهاية إلى انهيار الدّولة الموحّدة وتشتّتها، وفقدان العالم الإسلاميّ لزخمه الحضاريّ، الّذي تلاشى تقريباً في المرحلة العثمانيّة.

ويصوّر لنا الدّكتور أبو المعاطي أبو الفتوح أحد نماذج هذا الفساد الأساسيّة فيقول: (قد بدأ هجر المسلمين لقواعد الدّين الإسلاميّ الّذي حدّدها لنظام الحكم في الدّولة منذ زمن طويل وربّما منذ تولّي معاوية الحكم، وجعل الأمر في بني أميّة بالوراثة، وانتهى مبدأ الشّورى من حياة المسلمين، و أصبحت "القوّة" هي المسيطرة على المجتمع الإسلاميّ، إذا ملكها بنو أميّة فالأمر فيهم، فإذا انتقلت إلى بني العبّاس انتقل الأمر إليهم، وهكذا.. أي أنّ الصّراع الدّاخليّ بين أبناء الأمّة الإسلاميّة حول أمور الحكم أصبح مستديما لا ينقطع) [9].

لقد كانت السّلطنة العثمانيّة هي النّموذج النّقيض حضاريّاً للدّولة العربيّة، فالدّولة العربيّة تمكّنت بامتياز من أن تكون دولة منتجة للحضارة، فيما كانت السّلطنة العثمانيّة دولة متلافة لتلك الحضارة، وهذا ليس غريباً فهي وسّعت ورسّخت سلطانها مستفيدة من حالة الفساد الّذي عم ّالعالم الإسلاميّ بالتّرافق مع غلبة الّلاعقلانيّة على ثقافته، ولذا لم يكن من الغريب أن تكرّس السّلطنة العثمانيّة كلاً من الفساد والّلاعقلانية على مدى تاريخها، وفي الوقت الّذي كان فيه العالم الأوروبيّ يمضي بخطوات حضاريّة واسعة إلى الأمام، كان العكس يحدث في العالم الإسلاميّ، حتّى خارج حدود السّلطنة نفسها، وكأنّ الأطراف الإسلاميّة لم تكن بقادرة وحدها على الإنتاج الحضاريّ بعد أن أصيب المركز بالشّلل الحضاريّ، وقد انعكس هذا على الإسلام نفسه كدين، ليصنع منه نسخة متشدّدة متصلبة، تفتقد إلى العقلانيّة والدّيناميكيّة، وهذه النّسخة هي الّتي ما تزال مهيمنة حتّى اليوم، وهي بشكل عام الأساس الّذي يقوم عليه "الإسلام السّياسيّ"، ويتبناه دعاة "الأسلمة السّياسيّة"، وهذه النّسخة يمكن تسميتها بالشّكل "السّلفي التّقهقريّ" للإسلام، ويجب تمييزها بشدّة عن سابقتها الّتي مثّلت الشّكل "السّلفي الحضاريّ" للإسلام.

إنّ دعاة الإسلام السّياسيّ الراهن هم سلفيّون في قدوتهم وذهنيّتهم، وهم يستلهمون الماضي، ويفكّرون بأساليب السّلف في مرحلة الانحطاط،، وليس السّلف العقلانيّ الحضاريّ الّذي يمتاز عليهم بأنّه كان يفكّر بأسلوب عصره وليس بأسلوب أجداده.. وجلّهم لا يرون جيّدا الفروق الهائلة بين عالم اليوم، وعوالم الماضي، ولا يعيرون للرّتم السّريع في التّطور المعاصر أيّ انتباه فعال، ويريدون التّعامل مع عالم متغيّر شديد التّعقيد بنظام تشريعيّ سلفيّ ثابت!
لكن تبقى هذه ليست القراءة الوحيدة الممكنة للإسلام، كما هو حال أيّ دين آخر وأيّة إيديولوجيا أو فلسفة، ونظريّاً من الممكن لقراءة عقلانيّة حقيقيّة للإسلام أن تقدم منه نموذجا عصريّاً، قادراً على الاستجابة للعصر والمساهمة في الفعل الحضاريّ، وأن يكرّر التّجربة الإسلاميّة الأولى بمبدئيّتها، وليس بشكلانيّتها، الّتي يتشبّث بها "الإسلام السّياسيّ" الرّاهن.

تلك المبدئيّة الّتي نتكلّم عنها، قرنت الدّين بالعقل، فهمت أنّ الدّين يتوجّه إلى العقل ويتكامل مع العقل، وبالعقل المناسب لزمانها تمكنّت من إنتاج النّموذج الإسلاميّ المناسب للبناء الحضاريّ في ذلك الزمان، وبالطّبع لا يمكننا اليوم أن نستنسخ ميكانيكيّاً تلك التّجربة، أو أن نكتفي بذلك الحدّ من العقلانيّة لنبني حضارة عصريّة، فهذه المهمّة تقتضي عقلاً عصريّاً تامّاً في عصريّته.

تلك العقلانيّة مكنّت عمر بن الخطّاب من إيقاف تطبيق حدّ السّرقة في سنوات المجاعة، كما مكنته من إلغاء زواج المتعة عندما اقتضى الأمر، ثم مكنّت الأموييّن من الاستفادة من تجربة البيزنطيين في تنظيم وإدارة هيكليّة الدّولة، كما مكنّت العباسييّن من أن يطلقوا واحدة من أكبر عمليّات التّرجمة في التّاريخ القديم -إن لم تكن أكبرها على الإطلاق- لينقلوا الإرث الحضاريّ لليونان وسواهم من الأمم الأسبق في الحضارة إلى العربيّة، مما جعل العربيّة تقفز بذلك من حالة لغة ليس لديها أيّ رصيد علميّ إلى موقع الرّيادة بين لغات الحضارة في ذلك العصر، ونحن هنا أمام نماذج حقيقيّة لرجال دولة عقلانييّن يعون ويفهمون روح الدّين وضرورات الدّولة، وهذه مجرّد أمثلة، وهي ليست وقائع فريدة في الشّطر الحضاريّ من التّاريخ الإسلاميّ.

فيما نجد بالمقابل لحظة فارقة في تاريخ السّلطنة العثمانيّة عام 1580 تتمثّل بهدم مرصد  اسطنبول الفلكي وإزالة جميع مبانيه وآلات الرّصد فيه، استجابة لضغط رجال الدّين المتعصّبين، المعبّر عنه بفتوى من مفتي السلطنة حينها المعروف بقاضي زاده، وقد رسّخت هذه الفعلة أسس النّهج الّلاعقلانيّ الّذي سارت فيه السّلطنة، في الوقت الّذي كانت العقلنة وانتشار العلم يسير بخطى جدّ حثيثة في الغرب الأوروبيّ.


إن العقلانيّة والشّجاعة الّتي تمتّع بهما عمر بن الخطّاب وأمثاله من عظماء التّاريخ الحضاريّ الإسلاميّ هما اليوم نادرتان على السّاحة الإسلاميّة، وهما بالكاد تقتصران على نخبة قليلة من المفكّرين، البعيدين عن التّأثير على الجماهير، الّذين يهاجـَمون عادة بشراسة من قبل الإسلام السّياسيّ التقليديّ، الّذي يرفض جلّ ما يطرحون، ولا يتوانى عن تكفيرهم إذا لزم الأمر.

ومع أن عقلاّ علميّاً معاصرا يعتمد على منجزات العلم والفكر الفلسفيّ المعاصرين، وفي طليعتها فلسفة التّأويل، يستطيع من حيث المبدأ أن يعصرن الفكر الإسلاميّ، وأن يتجاوز الإشكاليات المرتبطة بالقراءة التّقليديّة للمصادر الإسلاميّة، فهذا اليوم على أرض الواقع أمر بعيد المنال على مستوى التّحوّل إلى قوّة فاعلة.


إنّ الواقع الإسلاميّ المعاصر، بالرّغم من وجود نسبة لا يستهان بها من الوسطييّن الإسلامييّن، ما زال تغلب عليه الذّهنيّة الدّينيّة التّقليديّة السّلفيّة الّلاعقلانيّة، المتّعصبة لذاتها، والرّافضة لغيرها، والشّاهرة لسيف التّكفير بوجه مخالفيها أو منافسيها، وإذا أردنا أن نكون عقلانييّن وموضوعييّن، فعلينا ألاّ ننتظر معجزة ظهور تيّار تنويريّ عقلانيّ  في المدى المنظور، أمّا الوسطيّة الإسلاميّة فهي الأخرى ما تزال تيّارا متذبذبا، وهشّا، ويفتقر إلى الرّؤية الواضحة، والتّنظيم والحراك المتماسك.

ولعلّ أفضل ما نستشهد به في هذا السّياق هو كلام الشّيخ البوطي، وهو من أبرز ممثّلي الاعتدال الإسلاميّ المعاصر، حيث يقول: (إنّ ضجيج هذه الجماعات الإسلاميّة الّتي تنكـّبت عن تعاليم القرآن ثمّ ابتعدت عن النّموذج التّطبيقيّ لهذه التّعاليم في حياة الصّحابة الكرام، لم يبقِ فرصة في الآذان الّتي تسمع أو للأبصار الّتي ترى، للّتنبه لوجود خطوط أو خطوات أخرى، سليمة عن أيّ اعوجاج، تنهج منهج كتاب الله، وتتعقّب خطوات رسول الله - ص- ثمّ صحابته البرّرة الكرام.. ذلك لأنّ قلّة أصحاب هذا الخطّ، وابتعادهم عن الأضواء إلى الظلّ، وعن الضّجيج إلى الهدوء، من شأنه أن يدع السّاحة البارزة الكبرى لتفور بهذا النّهج الثّورويّ الأرعن، ومن ثمّ فهو وحده الّذي يقع تحت أشعة الأضواء الإعلاميّة الّتي يستغلّها ويتاجر بها الأعداء العالميّون لهذا الدّين) [10].



إنّنا مطالبون عند التّعامل مع الواقع الإسلاميّ أن نتعامل معه بصفته واقعاً محضاً، وممثّلاً بجميع مكوناته العيانيّة، والعيانيّة فقط، وليس المحتملة والممكنة نظريّاً، وكما سلف الذّكر، فكلامنا عن الإسلام الواقعيّ، أو الواقع الإسلاميّ، اليوم، لا يستنفذ بتاتاً الإمكانيّة المبدئيّة لظهور نموذج أو حتّى نماذج قابلة للاختلاف الجذريّ عن الإسلام التقليديّ السّائد، المحكوم بتقاليد وعادات وأفكار الماضي، وعن الجانب الأسوأ في هذا الشّكل الإسلاميّ وهو "الإسلام السّياسيّ" الراهن، الذي بدلا من أن يسعى لتكييف قراءته للإسلام بما يتناسب مع ظروف العصر، لكي ينتج شكلا حضاريا متناسبا مع روح الإسلام، أو شكلا إسلاميا متناسبا مع روح العصر، يفعل العكس، ويسعى لفرض قراءته السلفية المختزلة للإسلام كقالب منافٍ للعصر، ولحشر الواقع قسريّا فيه، وليس هذا فحسب، فغالبا عندما يرفع الإسلام السياسيّ شعار حله الإسلامي، يرفعه كشعار فضفاض مفتقد للأجوبة المحدّدة عن المسائل الملحّة.

 فمثلا لا يقول الإسلاميّون السّياسيّون لنا بشكل واضح محدّد ما هو النّظام الاقتصاديّ الّذي سيتبنّونه؟ هو بالطّبع لن يكون اشتراكيّاً، بل رأسماليّا، لكن أيّ شكل من أشكال الرّأسماليّة سيختارون؟ هل هو نظام السّوق الحرّة؟ أم السّوق الاجتماعيّة؟ أم دولة الرّعاية الشّاملة؟ أم ماذا؟ سيجيبون ببساطة: لا هذه ولا تلك.. سيكون نظاماً إسلاميّاً! هذا جواب جدّ فضفاض! والإسلاميّة الاقتصاديّة المحدّدة بتشريع ثابت ولا يجوز تعديله لا مضموناً ولا شكلاً وفقا للقراءة التّقليديّة للإسلام السّلفيّ النّقليّ، ستصطدم اليوم بعنف بمواضيع تشريعيّة (objects) عالية الدّيناميكيّة، ولا يمكن للشّريعة المطروحة طرحاً ستاتيكيّاً صارماً أن تنظمها، وكمثال على ذلك: تؤدي الوتيرة المتسارعة لنموّ الشّركات الخاصة في الغرب إلى تراكمات ضخمة في رؤوس الأموال.. في أيدي قلّة قليلة من النّاس، مما يؤدّي إلى نشوء طبقة فاحشة الثّراء .. يمكّنها ثراؤها من احتكار السّلطة السّياسة إضافة إلى الثّروة، وبذلك تتحوّل إلى طبقة مالكة حاكمة مغلقة تحتكر الثّروة والسّلطة، وتقصى باقي الطّبقات، ممّا يهدّد بصراع طبقيّ أشمل وأخطر من الصّراع الطّبقيّ الّذي تحدّث عنه ماركس بين البروليتاريا والبرجوازيّة، فالصّراع هنا سيتمّ بين طبقات البرجوازيّة نفسها.. حيث ستتصارع طبقاتها الأدنى مع الطّبقة المخمليّة العليا، وستدخل معها أيضا الطّبقات الوسطى والدّنيا في هذا الصّراع الّذي سيمزّق المجتمع، ولدرء ذلك يـُعتمد نظام ضريبيّ ديناميكيّ متناسب مع تمركز الثّروات، فترتفع الضّريبة كلّما ارتفع التّمركز بهدف إعادة توزيع الثّروة، وهذه الضّريبة تتجاوز 60% في بعض الدول البلطيقيّة كالدّانمارك  وفنلندا مثلاً، وفي أمريكا نفسها هناك من يقترح - كالاقتصاديّ الشّهير روبرت شيللر (Robert J. Shiller)- رفعها حتّى 90%، وهؤلاء خبراء رأسماليّون تمامًا[11] ، ولا علاقة لهم بأيّة اشتراكيّة ثوريّة أو إصلاحيّة، أو أيّ طريق ثالث! فهل بمقدور الإسلاميّون السّياسيّون أن يقوموا بمثل هذه الإجراءات وهم المحكومون بفهمهم الثّابت لتشريع الزّكاة، الّذي إذا اقتصرنا عليه كضريبة دخل فستكون متدنيّة النّسبة في غالبيّة الأحوال؟ [12] ، وهل بمقدور الإسلامييّن التّقليدييّن اشتقاق تشريع ضريبيّ إلى جانب الزّكاة، يسمح بفرض ضرائب عالية، تعيد توزيع الثّروة وتحدّ من مخاطر تمركزها في قلّة من الأيدي؟!  هذا مجرّد مثال لا أكثر، عن إشكالية التّعامل بذهنيّة تشريعيّة ثابتة مع عالم متغيّر.. بل وسريع التّغيير! وهذه الحالة ستتكرّر في قضايا أخرى تتعلّق بوضع المنتمين إلى معتقدات دينيّة وغير دينيّة أخرى، وهنا سنتذكّر محاكم التّكفير في مصر، وقضيّة تكفير المفكّر نصر حامد أبو زيد و(تطليق)  زوجته، واغتيال المفكّر فرج فودة بفتوى من مرجعيّة دينيّة على يد الجماعة الإسلاميّة [13] ، وهذا من فعل الإسلام السّياسيّ وهو خارج السّلطة.. فكيف إن صارت السّلطة في أيدي هذا الإسلام المسيّس؟ هذا ناهيك عن مشاكل الشّباب المعاصر والمرأة المعاصرة، والكثير غيرها!

2- إشكاليّات المعنى السّياسيّ:


1.2.2- في مجتمع تعدّدي عقائديّاً:

 إنّ اعتماد دين رسميّ في دولة ما سيطرح فورا إشكالية وضع الغير الدّيني والمعتقديّ فيها، وسيضع الغير الأغيار في درجات مختلفة من عدم المساواة اّلتي تبدأ من اعتماد دين فئة محدّدة، والّذي يعتبر تمييزا معنويّاً بحدّ ذاته، ولكن هذا التّمييز لن يبقى في الإطار المعنويّ، فالمعنى الحقيقيّ لاعتماد دين للدّولة هو إعطاؤها هويّة ذات طابع دينيّ، وهذه الهويّة لا يحضى بها كاملة مبدئيّاً إلّا من انتمى إلى هذا الدّين، وبالتّالي فالمواطنة ستكون محصورة بأصحاب هذا الدّين، وليس الدّين كلّه بل المذهب السّائد فيه، فيما سيكون الآخرون مجرّد رعايا، وهذا هو المعنى السّياسيّ للمفهوم التّقليديّ لـ"أهل الذّمة"، وهذا معناه أنّ التّفاوت والتّمايز في الحقوق والفرص سيحلّ بين أبناء المجتمع، وقد يصل إلى حدّ إلغاء الحقوق وإلغاء الهويّة بل والذّات بالنّسبة للبعض منهم [14]، وهذا لن يؤدي بتاتا إلى حالة اجتماعيّة صحيّة، بل سينتج حالة مجتمع مأزوم يشعر فيه قسم من أبنائه بالغبن والخطر الدّائمين، ناهيك عما يمكن لهذا أن يؤدّيه من هدر للكفاءات بسبب المعايير الفئويّة، وفي المحصّلة سيحرم المجتمع من إمكانيّة النّمو السّليم، وسيبقى دوماً في حالة من الاضطراب.. الّتي كثيراً ما تؤدي إلى الصّراع المدمّر، وهذا ما يحدث اليوم في أكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ!

وفي الحالة العربيّة، حيث تتواجد مجتمعات شديدة التّنوع والتّشابك، فإنّ الدّعوة للحلّ الإسلاميّ ستصطدم قبل كلّ شيء بالمشكلة المذهبيّة، ولأنّ "الحلّ الإسلاميّ" يعني بشكل عامّ "الحلّ السّنيّ" فهذا يضع أبناء السّنة وأبناء المذاهب الأخرى في حالات مواجهة حادّة، ويضاف إليه الانقسامات الحادّة بين "أهل السّنّة" أنفسهم، هذا ناهيك عن التّوتر الشّديد الّذي يخلقه هذا الطّرح مع المسيحيّين حيث يتواجدون، فهم سيكونون فيه منتقصي الحقوق، وهذه مسألة لا تحتمل الجدل، فمجرد إدراج فقرات في الدّستور عن إسلامية رئيس الدّولة ومصدر التّشريع، هو خرق جلي للمساواة بحقّ كلّ غير المسلمين من مسيحييّن.. وغير متديّنين وسواهم!

وخلاصة ما تقدّم هو الاستمرار في تكريس الهويّات والانتماءات المذهبيّة، ومنع تشكيل هويّة وانتماء وطنّيين، والبقاء دون حالة الوطن والمواطنة، وتردّي الشّعور الوطنيّ الّذي يجب أن يحسّ فيه كلّ شخص بأنّه في وطنه الضّامن لحقوقه كإنسان، والمعترف به كإنسان! وهذا دائما يجعل الأوضاع مهيّأة وقابلة للانفجارات والصّراعات العنيفة!

وهذه الحالة نعاني منها اليوم أشدّ معاناة، ونحن بحاجة ماسّة لعلاج، وما سينتجه الحلّ الإسلاميّ المزعوم هو مزيدا من الدّاء والعناء!

 2.2.2- في مجتمع إسلاميّ محض:

لا تقلّ خطورة طرح الحلّ الإسلاميّ التّقليديّ في مجتمع إسلاميّ الدّين كليّاً، حتّى ولو كان أحاديّ المذهب، والإشكاليّة هنا تتعلّق بخطورة الخلط بين الدّين والسّياسة على كلٍّ منهما، وخطورة ذلك على المجتمع ككلّ.

إنّ اعتماد مرجعيّة واحدة ثابتة لحلّ المشاكل يقلّص دوماً إمكانيّة الحلّ الأفضل، وإيجاد الحلّ الصّحيح، وعند اعتماد حلّ غير مناسب باسم الدّين، وثبوت عدم صلاحيته، فثمّة دائما خطر الإصرار على هذا الحلّ الفاشل ومحاربة خصومه بسيف التّكفير، ولنا في الدّيكتاتوريّات العسكريّة المخرّبة للأوطان خير مثال على ذلك، فهي تصرّ على استمراريّة نهجها، ومن يخالفها تشهر بوجهه سيف التّخوين، إذ يـُختصر فيها الوطن في النّظام الحاكم، بل وفي شخصيّة الزّعيم الحاكم، وليس من ضمان يضمن عدم تكرار هذا تحت عباءة نظام إسلاميّ مزعوم، وعندها سيختصر الإسلام في شخصيّة الحزب أو الحركة الحاكمة.. وربّما في زعيمه، وستصبح مخالفته ومعارضته كفرا! وحتّى إن لم يتمّ ذلك بشخصيّة زعيم إسلاميّ، فتبني إيديولوجيا ومنهجيّة دينيّة مقدسة، سيقلّص الخيارات إلى حدّها الأدنى عبر رفض التّعدد والاختلاف، وسيلغي دور العلم والعقل عندما يتعارضان مع التّصور الدّينيّ، وفي حالة "الإسلام السّياسيّ الرّاهن" هو تعارض حادث لا محالة بين منهجيّة تعتمد الإيمان والغيب والتّسليم، وأخرى تعتمد التّفكير والواقع والنّقد، ناهيك عن أنّ الخلاف والاعتراض والمعارضة وما يشبهها ستغدو كلّها في هذا الوضع خروجاً على الدّين، وبالتّالي كفرا يستوجب القصاص!

أضف إلى ذلك أنّه عند اختلاط السّياسة بالدّين، فستنسحب المشاكل ذات الطّابع السّياسيّ المتعلّقة باختلاف المصالح والرّؤى على الدّين نفسه، وستدفع باتجاه قيام مذاهب جديدة فيه، وهذا سيزيد من أخطار الانقسام والصّراع الدّيني وما يرتبط بها من عنف، وقد عانينا في تاريخنا ومازلنا نعاني منها في حاضرنا الأمرّين، ومن يراجع التّاريخ الإسلاميّ، سيجد أن أكثرية المذاهب الإسلامية، وما ارتبط بها من صراعات، كانت وراءها خلافات سياسيّة الطّابع، ومرتبطة بمصالح من النّوع السّياسيّ، لكنّها قولبت في قالب دينيّ بسبب اقتران الدّين بالدّولة في التّاريخ الإسلاميّ، فمعظم هذه المذاهب نشأت بنتيجة الخلاف على حقّ فلان أو فلان بالخلافة أو الإمامة أو الولاية أو الإمارة .. وما شابه [15]!

يضاف إلى ذلك أنّ طبيعة الحياة هي دوماً التّغيّر، والتّغيّر هو شرط لازم للتّطوّر، وهذا قد تسارعت وتيرته بشكل ضخم في العالم المعاصر بنتيجة التّطورات الهائلة في كافّة مناحي الحياة، فقد تطوّر العلم والفكر والصّناعة والاتّصال والتّواصل، وغيرها، وهذا يعني -إضافة إلى الوجوب المبدئيّ- الحتميّة الفعليّة لدخول أو نشوء أفكار وآراء ومعتقدات مختلفة عما هو سائد، وعندها سيستخدم هذا السّائد سياسة القمع بحقّها، وهذا من ناحية حدّ لإمكانية التّطوّر في المجتمع وإبقائها تحت وصايته، ومن ناحية ثانية ممارسة للعنف بحقّ جزء من أبناء هذا المجتمع، ومسبّب كبير الاحتمال للصّراع، ومثل هذه الحالة ليست وليدة اليوم وحسب.. فقد عرفها التّاريخ المسيحي ّفي أوروبا الغربيّة الكاثوليكيّة المذهب، الّتي كانت فيها الكنيسة تتحالف مع الملوك والأمراء وتمنحهم شرعيّة الحق الإلهيّ بالحكم المطلق، وقد حدث ذلك نتيجة انفتاح أوروبا على الحضارة العربيّة الإسلاميّة إضافة إلى التّطوّرات الدّاخليّة الخاصّة فيها، كما عرفها العالم الإسلاميّ في بواكير الإسلام بنتيجة الفتوحات والاحتكاك مع ثقافات أخرى، وبالطّبع لم تمرّ أيّ من الحالتين بسلام.

وهذه الإشكاليات كلّها هي أمر واقع لا محالة في أيّ نظام حكم شموليّّ، دينيّ أو غير دينيّ، إسلامي أو غير إسلاميّ، وحتّى في مجتمع متجانس عقائديّاً.

 3- إشكاليّة المحتوى المبادئيّ:


عدا الفهم الخاصّ الضّيق الأفق غالباً لقوى الإسلام السّياسيّ للإسلام نفسه، والّتي غالباً ما لا تتّفق مع بعضها.. ومع غيرها من المرجعيّات الدّينيّة في نفس المذهب [16] ، وهذا ما شاهدناه مثلاً  في علاقة الإخوان المسلمين في مصر مع كلّ من الأزهر وحزب النّور، فثمّة إشكاليّة في منهجيّة التّشريع الإسلاميّ السّلفي نفسه، ومن أبرز نقاط هذه الإشكاليّة:

1- تقسيم النّاس إلى ثلاث شرائح، وهم المسلمون والذّميّون، والكفرة، وإقرار الحقوق بناءً على هذه التّقسيمات، الّتي لا تقرّ حقوقاً متفاوتة وحسب، بل وتلغي هويّة وحقوق فئات بأكملها في المجتمع من حيث المبدأ تحت مسمى الكفر.

2- عدم تحقيق المساواة بين الرّجل والمرأة، والانتقاص من مكانة المرأة بدعوى أنّها كلّها عورة [17] ناقصة العقل والدّين، ويجب إبقائها تحت وصاية الرّجل القوّام عليها أباً أو أخاً أو زوجاً وسواه، إضافة إلى عدم المساواة في شؤون الزّواج والميراث والشّهادة القضائيّة والحكم، وغيرها.

3- المرونة المتدنيّة في التّشريع، وثبوته على مستوى أصول الاشتقاق، ومحدوديّة تغييره على مستوى الأحكام، حيث أن معظم الأحكام غير قابلة للتغيير وفقا للفهم السّلفيّ التّقليديّ، وبالأخصّ المعتمدة- وفقا لهذا الفهم- على القرآن والسّنة.

4- إعلاء النّقل على العقل، وتأطير العقل فكريّاً في إطار تفاسير وتآويل النّصّ الشّرعيّ والقياس عليها، ووجوب التوافق مع فقه الأقدمين والاستناد إليه والدّوران في فلكه، وبالتّالي مصادرة دور قدرات العقل الاكتشافيّة والتّأسيسيّة والتّفاعليّة المستقلّة، وديناميكيّته الاستجابيّة للظّروف الموضوعيّة، وهي أهم صفات العقل، وإبقائه مقيدا وتابعا وخاضعا لمرجعيّات خارجيّة وماضويّة.

5- تأطير العلم أيضاً في إطار ما يتوافق مع المعتقد الدّينيّ المرتبط بفهم السّلف له، مما يحدّ من إمكانيّة تغلغل العلم في المجتمع وفي الفكر ومنهج التّفكير.

6- شرعنة الحكم الاستبداديّ الفرديّ بفقه الطّاعة، وعدم  قطعيّة جواز شرعيّة [18] الخروج على الحاكم الظالم الفاسد، وعدم  قطعيّة وجوب الشّورى [19].

  وهذه الأخيرة استند عليها العديد من أنصار محمّد مرسي في مصر عند إصداره للإعلان الدستوريّ في 22‏/11‏/2012، الّذي لم يستشر فيه أيّاً من مستشاريه الرّئاسيين أو سواهم من المخوّلين بالاستشارة بدعوى أنّ الشّورى غير ملزمة للحاكم، وعلى الأرجح تمّ وضع ذلك الإعلان في مكتب الإرشاد الإخوانيّ، وهو إعلان دستوريّ وسع فيه مرسي صلاحيّاته إلى درجة كبيرة، هذا مع العلم أنّه حتّى ذلك الوقت لم تكن العلاقة بين الشّريعة الإسلاميّة ونظام الحكم في مصر قد حدّدت بدقّة بعد، ولا حتى قـّنن وضع وصفة جماعة الإخوان المسلمين نفسها، فلم يكن الدستور قد أُقرّ بعد، ومع ذلك برّر أنصاره سلوكه وكأنّ الحكم في مصر إسلاميّ بالكامل!

هذه القضايا الإشكاليّة كلّها أصبحت بالنّسبة للعالم المعاصر والعقل المعاصر مرفوضة.

وهي مشاكل لن يجد لها الإسلاميّون السّياسيون في قراءتهم التّقليديّة للمصادر الإسلاميّة حلاً حقيقيّاً، ومن المستحيل عليهم وهم المتشبّثون بحرفيّة النّصّ، تجاوز النّصوص الإسلاميّة المصدريّة الّتي تمنع بقرائتها الحرفيّة المساواة بين المسلم وغير المسلم، وبين الرّجل والمرأة، ولا تضمن حتّى المساواة بين المسلمين أنفسهم إن لم تفعل العكس، وكلّ ما يستطيع هؤلاء فعله هو فرض هذه القراءة على الواقع مع محاولة تبريرها على أساس إيمانيّ محض.

وفي المحصّلة، وحسب الفهم السّلفيّ التّقليديّ للإسلام، سيكون معنى "الحلّ الإسلاميّ" عند معظم الموجود من القوى الإسلاميّة السّياسيّة الّتي تنادي به وتتبنّاه، أنّ المرأة ستبقى في صورة العورة النّاقصة عقلاً وديناً، وتبقى معادلة لجزء من ستة عشر من الرّجل في تشريع الزّواج من أربعة، ومعادلة لنصف رجل في الميراث، ونصف رجل في الشّهادة المشروطة بوجود رجل، وإلا فلا شهادة لها؛ وهذا واقع إسلاميّ سلفيّ تقليديّ، وفيه سيبقى المسيحيّ – إن وجد- ذميّا، وغير مساو للمسلم في الحقوق، وسيكون سواه من أصحاب الأديان والمعتقدات، بل وحتّى المذاهب الإسلاميّة الأقلّويّة نفسها، عرضة للتّكفير أو التّهميش، ويكون غير المتديّن كافرا مهدّداً بالقصاص؛ وسيبقى التّفاوت الاقتصاديّ الفادح قائماً، فالغنى والفقر هما من الله، الّذي خلق النّاس فوق بعضهم درجات، ويبقى الحاكم المستبدّ محميّا بفقه الطّاعة؛ وسيكون على العالـِم أن يوافق نظريّاته مع الفهم التّقليديّ الماضيويّ للدّين، وعلى المشرع أن يوافق قوانينه مع الأحكام الموروثة من سالف الأزمنة على أساس الدّين؛ وهذا ينطبق أيضا على المفكّر والأديب والفنّان وسواهم، وهكذا دوليك!

ومثل هذا الحلّ هو كارثة وليس حلّاً، وليس لدى الإسلام السّياسيّ التّقليديّ عموماً القدرة على تقديم "إسلام بديل"، وكلّ إسلام بديل هو برأي أنصاره – الّذين كثيرا ما يكفرون حتّى بعضهم البعض- بصريح العبارة لن يكون إلّا "زندقة"، فهنا تسود وبأكثر الأشكال عصبيّة فكرة الفرقة النّاجية، الّتي لن يبقى لسواها إلا الضّلال المبين.

فمثلا يقول ممثّل حزب التّحرير في الدّانمارك فادي عبد الّلطيف في سياق حوار مطوّل أجرته معه "العربيّة.نت" أن الدّعوات القائمة إلى طرد خطاب التّخوين والتّكفير من الإعلام العربيّ هي دعوات "حقّ يراد به باطل". ويرى الحزب بحسب ممثّله المذكور أن العالم كلّه اليوم بما فيه بلاد المسلمين دار كفر، بمعنى أنّه لا توجد فيه دولة تحكم بما أنزل الله في الدّولة والمجتمع. فدار الكفر وفق الاصطلاح الشّرعي – كما يقول عبد الّلطيف- هي الدّار الّتي لا تحكم بالإسلام [20].

أما ابن مقصد العبدليّ فيقول تعقيبًا على حديث "كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النّار": (قد علمت أيّها المسلم أهميّة هذا الحديث النّبويّ الّذي عليه مدار الإسلام وأصول الأحكام ونحن ندخل هذا الحديث في كفر الأنظمة العربيّة، لأن أعمالها ونظامها وسياستها لا تمتُ إلى الإسلام بصلة، فمن غيّر وبدّل وحَرَّف فقد كفر وخرج عن الملّة، ومن قال قولاً أو عمل عملاً أو أحدث حدثاً لم يشرّعه الله ورسوله، فهو مردود عليه، يأخذ حُكمه وعقابه في الدّنيا والآخرة وفق الذّنوب والمعاصي المرتكبة سواء كانت مكفّرة أو غير مكفرّة) [21].

وهنا سنعود من جديد إلى طرح السّؤال المحرج: "هل الإسلام هو حقّاً كذلك"؟

ولن يصعب علينا أن نجيب بأنّه كذلك وفقا للفهم السّلفيّ التّقليديّ الثّابت للدّين، فإن كان هذا هو الفهم القطعيّ والنّهائيّ للدّين الإسلاميّ، فلا حلّ حقيقيّ بالدّين عندها، وبمثل هذا الفهم للدّين ستتعاظم المشكلة، فهل يقبل، والأصح أن نسأل: هل يقدر الإسلاميّون السّياسيّون التّقليّدون على تقديم مفهوم مغاير للدّين؟! هم قطعا لا يقدرون، فعن أيّ حلّ إسلاميّ يتحدّثون؟!

وهذا الحلّ لن يأتي قطعا عن طريقهم، وإن كان سيأتي، فهو لن يأتي إلا عن طريق"إسلام تنويريّ تحديثيّ"، ما يزال على أرض الواقع هامشيّ الوجود.

 4- إشكاليّة الواقع التّطبيقيّ:


  للوصول إلى الحكم وتطبيق الحلّ الإسلاميّ المزعوم في ظلّ وجود قوى أخرى مختلفة (عسكر، قوى إسلاميّة منافسة، مذاهب أخرى، أديان أخرى، حركات وأحزاب سياسيّة غير دينيّة، قوى مدنيّة، إلخ..) ليس أمام القوى الإسلاميّة المسيّسة إلا ثلاثة سبل وهي:

- الّلجوء إلى القّوة، والوصول إلى الحكم باستخدام العنف، وهذا يعني الصّراع مع بقيّة القوى، وهذا خيار كارثيّ وليس حلاً.

- أو الّلجوء إلى حلّ بالتّراضي، وهذا إن نجح فلن ينتج إلا دولة محاصصة هشّة، ولن ينتج لا نظاماً إسلاميّاً ولا مدنيّاً كاملاً، وسيبقى مهدّدا بالخلافات بين المتحاصصين أنفسهم، وبالرّفض من قبل أكثريّة النّاس، الّذين لم يفوضوا أحدا بالتّفاوض عنهم في عملية التّحاصص، أو الّذين وجدوا نتائجها مجحفة بحقّهم، أو لا تخدم مصالحهم..

- أو استعارة المبادئ الدّيمقراطية، والمرور عبر انتخابات، ولكن هذا يضعنا أمام مغالطة فجّة، ففي المبادئ الدّيمقراطية في حالة تعدّد الهويّات والانتماءات لا معنى لأيّ تصويت مرتبط بالهويّة والانتماء، فالنّتيجة ستكون تحصيلاً حاصلاً وكلٌ سيصوّت حسب هويّته وانتمائه، ونسب ونتائج التّصويت ستكون محدّدة سلفاً، وهذه الحالة ستشبه مثلاً حالة لو أنّ الهنود قرّروا اعتماد دين للدّولة والحكم بموجبه ولجؤوا إلى التّصويت في ذلك! فهل سيكون للتّصويت من معنى والنّتيجة معروفة سلفاً، وهي فوز الأغلبيّة الهندوسيّة؟! هذا المبدأ هو محاولة لشرعنة حكم الأغلبية أو ديكتاتورية الأغلبيّة، الّذي لا شرعيّة له، ولا سند له إلّا القوة القائمة على التّفوق العدديّ، وعند الاحتكام إلى القوّة يصبح من حقّ الأقليّات، إن وجدت، البحث عن مصادر قوّة أخرى لمواجهة أو كسر قوّة الأغلبيّة، وهذا بالطّبع ستجده في الدّعم الخارجيّ، الّذي قطعاً لن يكون بلا غاية وبلا مقابل، هذا من ناحية المنطق، ومن ناحية القانون عند إجراء أيّة انتخابات لا بدّ من وجود مرجعيّة قانونيّة تتمّ بموجبها الانتخابات، فما هي مرجعية هذه المرجعيّة القانونيّة نفسها؟ هنا لن يكون أمامنا إلا العقل، والعقل وحده وحسب! وهو المرجعيّة الّتي لا يقبلها هؤلاء الإسلاميون السّياسيون، وهذا ما رأيناه في موقفهم في مصر بعد ثورة 11 فبراير من قضيّة "المبادئ الحاكمة للدّستور"، الّتي طرحتها القوى المدنيّة كشرط قبل التّصويت على الدّستور المقترح، لكنّ الإخوان المسلمين ومعظم قوى الإسلام السّياسيّ المصريّة رفضت ذلك بشكّ قاطع، ووصفه بعض قادتها بـ"البلطجة السّياسيّة"!

ومع ذلك فأيّة لعبة انتخابيّة لا تعطي نتيجتها أيّ فائز الحقّ بإلغاء الآخرين، ولكن لا ضامن في بيئة متدنيّة الثّقافة والتّجربة السّياسيًّة من حصول ذلك، وقد حصل هذا في ألمانيا النّازية بعد وصول هتلر إلى الحكم عبر الانتخابات، فما بالك في حال كحالنا؟!، وفي حال حدوث هذا فالّنتيجة ستكون إمّا الصّراع الطّائفي أو الدّيكتاتوريّة الطائفيّة، فهل هذا هو الحلّ المأمول؟!

واقعيّاًّ، أحسن ما يمكن لقوى الإسلام السّياسيّ الرّاهنة بعمومها تحقيقه هو نظام محاصصة، تضمن فيه الحّصة الأكبر بناء على تفوّق مذهبها العدديّ، ونظام المحاصصة يمكننا أن نرى نتائجه السّياسيّة المخيبة للآمال في بلد عربي سكّانه منفتحون نسبيا كلبنان، فقد أصبحت هذه المحاصصة سندا للانقسام الفئويّ، وحاضنة للفساد السّياسيّ والاجتماعيّ، وقاصية للكفاءات، وعائقا أمام طموحات ورؤى الشـّباب.. ومصالح عامّة النّاس، وهي سابقا أوقعت لبنان نفسه في حرب كارثيّة، لم يتعافَ من آثارها بعد، وما تزال مهدّدِة بالتّجدّد، وفي المحصّلة أصبحت هذه التّحصاصيّة وزرا خطيرا يشلّ حركة المجتمع ويهدّد وحدته.

وإن كان اللّبنانيّ حتّى اليوم ما يزال مرغماً على الالتزام بالحقوق المسموحة لطائفته، والمسموحة فيها، وبالتّقاليد السّائدة فيها، ولا يستطيع حتّى الزّواج من طائفة أخرى إذا كانت طائفته تمنع ذلك، فالوضع أسوأ في البلدان ذات الانفتاح والانفراج الأقلّ حيث تنتهك الحريّات والحقوق الدّينيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة بشكل أكبر بكثير، وهذا لن يكون إلّا إعادة إنتاج للأوضاع الحاليّة – ذات التّحاصص الضّمني- بكلّ مساوئها.

وفي أحسن الأحوال المحتملة لن تختلف النّتيجة عن الواقع الحالي، وهو في معظم البلدان العربيّة نظام محاصصة أو تقاسم نفوذ غير معلن رسميّاً، رغم وضوحه الفجّ، بين القوى الفاعلة المختلفة على حساب الشّعوب العربيّة المغيّبة والمضّطهدة على كافة الصّعد.

ثالثا-  مقارنة مشروع الحلّ الإسلاميّ التّقليديّ مع البدائل الممكنة:


كما سلف الذّكر، فإنّ جلّ ما يمكن لمشروع الحلّ الإسلاميّ الرّاهن الوصول إليه إن لم يغرق بلاده في الصّراع، وما أكثر ما يفعل هذا، هو شكل حكم هجين، هو في واقع الأمر تقاسم نفوذ وحصص، تكون فيه مصلحة الوطن والشّعب مهمشّة، وهذا النّظام هو تكريس للتّجزئة الطّائفية، والتّمييز الجندريّ، ومصادرة كليّة أو جزئيّة لحقوق الإنسان، ولن تتحقّق فيه الّلحمة الوطنيّة، والمساواة بين المواطنين، ولن يكون فيه النّاس إلّا رعايا للسّلاطين ولأرباب الملل والنّحل، وستكون حقوقهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة في معظم الأحيان في الحضيض.

ومع ذلك فهذا النّظام أقلّ سوءا من الحلّ الإسلاميّ الشّموليّ المزعوم، الّذي لن يكون إلّا نظاماً دينيّاً ديكتاتوريّاً تكفيريّاً يلغي الآخر كليّاً أو جزئيّاً.

لكن في كلّ من هذا وذاك في أجواء من سلطان سلفيّة الفكر والمعتقد، ستبقى المرجعيّة الجمعيّة مأزومة بمفارقتها المبدئيًة والفعليًة لكلّ من العقل والعلم والحاضر والعالم، ومنتمية إلى الغيب والتّسليم والماضي والملّة، وبعيدة عن الإنسان والتّاريخ والواقع، بفهم كلّاً منهما كصيرورة متّغيرة متطوّرة.. غير محدودة الأشكال، ومثل هذا الواقع المأزوم، سيبقى دائما البيئة الخصبة فقط للإنتاج الّلاإنسانيّ، وحصناً لتخلّف العقل، وتعصّب الضّمير، وعنف النّفس، الّذي لن يقود إلّا إلى الصّراعات المختلفة، وهو داء، ومحاولته لعلاج نفسه بنفسه ليست إلّا كذبة على هذه النّفس، وتخديرا لها في أحسن الأحوال.

1.3- فهل من بديل؟


في الوجود ككلّ يتكامل الحتميّ مع الممكن، وفي الحياة دائماً تتعدّد الخيارات، ومن الممكن الكلام نظريّاً عن أكثر من بديل:

فمن الممكن الكلام عن بديل إسلاميّ عصريّ، يعيد قراءة المصادر الإسلاميّة والإرث والتّاريخ الإسلاميّ كلّه قراءة عقلانيّة، علميّة تستفيد من إنجازات الفكر المعاصر على الصّعيدين العلميّ والفلسفيّ، ولاسيّما فلسفة التّأويل (Hermeneutics)، ليعيد طرحها وتقديمها بما يتناسب مع العصر بكلّ ما فيه من عقل وعلم وقيم إنسانيّة عالميّة، ولكن هذا الحلّ لا وجود له حتّى الآن على أرضيّة الواقع، فليس ثمّة أيّة قوى إسلاميّة فاعلة من هذا النّوع رغم وجود بعض الإرهاصات والحالات الفرديّة.

ومن الممكن أيضا الكلام نظريّاً عن نظام إصلاحيّ هجين، يجمع بشكل بنّاء بين القيم والمثل الإسلاميّة والمبادئ المدنيّة، بحيث تسنّ تشريعات وقوانين بأسلوب مدنيّ وعلى مبادئ مدنيّة، ولكن تراعى فيها القيم والأخلاق والآداب الدّينيّة والخصوصيّات العقائديّة، وكمثال على ذلك يمكن في مسألة الزّواج مثلاً أن يعتمد تشريع ثنائيّ يعترف بكلّ من الزّواج الدّينيّ والزّواج المدنيّ معاً، ويترك الخيار للشّخص في أن يختار هذا أو ذاك، وهكذا دواليك؛ ولكن مرّة أخرى سنجد أننا هنا نفتقد إلى كلّ من القوى الإسلاميّة وحتّى المدنيّة المنفتحة والصّادقة والجريئة بالقدر الكافي لتّحقيق مثل هذا التّوافق، ولن يكون أمامناً على أرض الواقع إلا المحاصصة، المكرِّسة للفساد بين القوى التّقليديّة.

وهكذا يبقى البديل الواضح المتبلور إلى درجة كافية هو النّظام المدنيّ، وهو نظام العصر، الّذي يقوم على المبادئ الإنسانيّة الشّاملة وعلى العقل والعلم، ويعترف بالإنسان إنساناً أولاً وأخيراً، ويساوي بين جميع النّاس بغضّ النّظر عن الدّين أو العرق أو الجندر(gender)، وهو يعتمد على العقل والعلم والحوار، ويضمن حقّ الجميع بالوجود والنّشاط السّلمي الشّامل.

لكن فكرة "الدّولة المدنيّة"، الّتي يُفصل فيها بين الدّولة والدّين، هي فكرة تثير نفور وتخوّف عموم المسلمين عادة، إذ يهيّأ لهم أنّها إلغاء للدّين.

بل ويحمّلها بعض الإسلاميّين وزر الصّراعات الدّائرة في العالم الإسلاميّ كالدّكتور أبو المعاطي أبو الفتوح الّذي يقول بشأن هذه المسألة: (ما لم ينته فصل الدّين عن الدّولة في الأمّة الإسلاميّة فلن ينتهي الصّراع الدّاخليّ بين أبناء الأمّة، ومعنى ذلك أن حكم القوّة سيبقى هو المسيطر على الدّولة، وهذا معناه الحتميّ تخريب المسلمين لبيوتهم بأيديهم.

لماذا؟

لأن طبيعة الدين الإسلاميّ تأبى هذا الانفصال، فالدين الإسلاميّ عقيدة وشريعة...) [22].

وهذا كلام شديد المغالطة، فقائله يفترض أنّ الصّراع قائم بين من يريدون فصل الدين عن الدولة وبين من يرفضون ذلك، ويفترض أيضا وجود فصل للدين عن الدولة في الأمّة الإسلاميّة، وهي أمّة مع وقف التنفيذ على أرض الواقع وغير محقـّقة بالفعل، أما البلدان الإسلامية فليس فيها فصل للدين عن الدولة إلّا في تركيا، رغم أن معظم هذه البلدان لا تُحكم حكما دينيّا كليّا، كما أن القائل ينسى أو يتناسى الصراعات بين القوى الإسلاميّة الساعية لإقامة الحكم الإسلاميّ والحكومات القائمة، والصراعات التي تدور بين القوى الإسلاميّة نفسها، وهي صراعات كارثية، وقد حدث هذا في أفغانستان، وفي ليبيا وفي سوريا وغيرها، هذا ناهيك عن الصراعات التي تتخذ طابعا مذهبيا حيث تتعدد المذاهب!

لكن بالمقابل ثمة من يرى كنزيه الأيوبي أن من أسباب الصراع الديني الذي استحكم في مصر منذ السبعينيّات هو النأي عن العَلمانية الذي حدث ليس بين المسلمين فقط، بل وبين الأقباط ، الذين تحوّل ولاؤهم السياسي من حزب الوفد الجماهيري وزعامات شعبية مثل مكرم عبيد إلى ولاء إلى الأكليروس القبطيّ بزعامة البابا نفسه [23].

إنّ عموم المسلمين لا يدركون أنّ الدّولة المدنيّة لا تلغي قطعا الدّين من حياة الفرد، وأنّها في حقيقتها تفعل العكس تماما، وأنّها تحفظ هذا الحق للجميع بلا استثناء، وتحمي الدّين من الاستغلال من قبل كلٍّ من أصحاب المطامع والمتعصّبين؛ والإسلاميّون السّياسيّون ينقسمون غالبا إلى صاحب مطمع أو صاحب عصبيّة، وهذا ما نستقرئه ببساطة من أرض الواقع، والأول مأزوم أخلاقيّا، بينما الثاني مأزوم عقلانيّا، وبين هذا وذاك يضيع المسلم البسيط، وهو إن أدرك ضياعه وأراد إيجاد نفسه فلن يتمّ له ذلك إلّا في نظام يتعامل معه كإنسان حرّ كالمدنيّة الديمقراطيّة، ولا يعتبره رعيّة ويصادر حريتّه كالإسلام السّياسيّ التّقليديّ أو أي نظام استبداديّ آخر.

لن يلغي "النّظام المدنيّ" إسلام المسلم ولا مسيحيّة المسيحيّ ولا دين أو عقيدة أيّ شخص آخر، ولن يمنع أحداً من ممارسته الدّينية أو المعتقديّة بشرط عدم أذيّة النّفس والغير، ويكفي تأكيداً على ذلك أن نقول أنّه ثمّة الملايين من المسلمين يعيشون في دول علمانيّة في قارات مختلفة (ومن بينها دول آسيويّة كالهند و تركيّا، وغيرهما..) وحقوقهم الدّينيّة مصانة، وحقوقهم الإنسانيّة محترمة أكثر من بلدانهم الأمّ بكثير.

2.3- ماذا يمكن أن يخسر المسلم في النّظام المدنيّ؟


غالبية البلدان الإسلاميّة هي بلدان متخلّفة فقيرة، تحكمها نظم ديكتاتوريّة فاسدة، وتنتهك فيها حقوق الإنسان الماديّة والرّوحيّة إلى أقصى الدّرجات، ومع ذلك فالحاكم فيها غالباً يحظى بمباركة رجل الدّين، التّابع لهذا الحاكم، والمرتبط معه مصلحيّاً، وهذه مصلحة متواترة عبر التّاريخ، وهي ليست محصورة بدين محدّد أو ظرف محدّد، لكن هل لدى المسلم البسيط، وبسطاء المسلمين هم الأغلبيّة السّاحقة في بلدانهم، ما يخشى على فقده في الدّيمقراطيّة المدنيّة ؟! والمسلم في بلاده غالباً هو كائن مستلب على كافة الصّعد حتّى على الصّعيد الدّينيّ، الّذي يسلّم فيه زمام قيادته لشيوخ جلّهم مرتهنين؟!

هل ما سيخسره مثلاً هو قدرته على فرض الإسلام أو التّقاليد الّتي كوّنها حسب فهمه المختزل للإسلام على غير المسلمين؟ وهل سيكون هذا نصراً للإسلام؟

 ألم تلعب سياسة "الإسلاميّين" السّودانيين الّذين يدّعون إسلاميّة الحكم دوراً جوهريًّا في تقسيم السّودان.. عندما فرضوا تقاليدهم الإسلاميّة [24] المزعومة على الجنوب غير المسلم؟ ألّا يتصارع اليوم في الشّرق العربيّ السّنيّ والشّيعيّ وغيرهما من المسلمين وغير المسلمين في معركة العصبيّات المذهبيّة الدّاميّة، فينفـّذون بذلك بلا وعي خطّة صهيونيّة، لتحويل الصّراع في الشّرق الأوسط من صراع عربيّ-إسرائيليّ إلى صراع سنيّ- شيعيّ تدور في فلكه بقيّة الأقليّات الدّينيّة والعرقيّة؟ فهل هذا هو الانتصار المزعوم للإسلام؟

3.3- أهو خوف المسلم من الإقصاء والتّهميش؟


بالطّبع في النّظام المدنيّ تتمّ ممارسة السّياسة بصفة المواطنة، ولا يسمح لأيّ متديّن بالدّخول إلى حلبة السّياسة بصفته متدينا، مسلما كان أم غير مسلم، فهل في هذا خسارة للمسلم وهو الملغى منها أساسا في واقعه الاستبداديّ المعاصر، إذ لا أحد من عامّة النّاس يدخلها أصلا دخولا حقيقيّاً في أنظمة الاستبداد، التي تجعل الشّخص رعيّة تستوجب الوصاية عليها؟! لكنّ الدّيمقراطيّة لا تحرم أيّ متدين من خصوصيّته الدّينيّة حتّى في المجال السّياسيّ، بل تعطيه الفرصة لإدخالها في عالم السّياسة بشكل غير مباشر من خلال التّعاطي مع هذه الخصوصيّة على الصّعيد الرّسميّ ليس بصفتها الدّينيّة الّتي تعتبر فيه "رسالة سماويّة"، بل بصفتها الاجتماعيّة الّتي ينظر من خلالها إليها  كـ"ثقافة إنسانيّة" واقعيّة، وبالتّالي فبمقدور المتديّن اشتقاق برنامج سياسيّ.. أو نظريّة سياسيّة اجتماعيّة تقوم على فكره وقيمه الدّينيّة، ويمكنه بعدها أن يؤسّس على ذلك حزباً أو حركة أو تكتًلاّ وما شابه، للدّخول في حلبة السّياسة ولعب الّلعبة السّياسيّة الدّيمقراطيّة بتمامها، وبكلّ ما تشهده من نقد وتشكيك وتفنيد وما ماثل بين الأطراف المتنافسة دون عصمة أو قداسة لأحد، وهذا يقتضي عدم إقحام الدّين نفسه كدين وكعقيدة مباشرة في السّياسة، لما لّلدين من تقديس لا يقبل الرّفض أو النّقد أو المخالفة عند المتديّنين، وهذا النّهج ينتهجه مثلاً حزب "العدالة والتّنمية" في تركيا ذي الخلفية الإسلاميّة، وحزب "الاتحاد الدّيمقراطيّ المسيحيّ" في ألمانيا، وكلاهما حزبان علمانياّن بالمعنى التّام للعلمانيّة.. لكنّهما مؤسّسان على أسس إنسانيّة دينيّة الأصل، وعربيّاً ثمّة بعض الأحزاب العربيّة الّتي تقارب هذا الوضع إلى حدّ ما، منها مثلاّ حـركة النّهضة التّونسيّة وحزب الوسط المصريّ، أمّا أكذوبة "حزب الحريّة والعدالة" المصريّ، فلم تكن إلّا لعبة مكشوفة متّفق عليها للالتفاف على المبدأ الدّستوريّ الّذي يمنع تشكيل الأحزاب الدّينيّة، وشكلنته وإفراغه عمليّاً من محتواه، وتمكين حركة الإخوان المسلمين المصنّفة مبدئيّاً كحركة دعويّة من العمل السّياسيّ الممنوع عليها، ولكن حتّى هذا القدر المكشوف من قواعد اللّعبة لم تلتزم به الحركة.. وأخذت تمارس السّياسة في العلن في إطار واجهتها الحزبيّة الشّكلية وخارجها، وأعلنت بمنتهى الصّراحة والوضوح عن خضوع وتبعيّة الحزب لها وائتماره بأمرها، وهذا مرفوض ديمقراطيّاً.. فالحزب المرخّص هو فقط الحزب المستقلّ غير المرتبط بأيّة جهة أخرى سياسيّة أو غير سياسيّة، داخليّة أو خارجيّة، وترخيصه يعني من ضمن ما يعني الاعتراف به كـ"شخصية اعتباريّة"، استقلالها شرط لازم لشخصانيّتها، فإن فقدته أو تنازلت عنه، فقدت شخصانيّتها، وشخصيّتها، وأعلنت هي نفسها قبل الآخرين عدم اعترافها بنفسها، ومع فقدانها الشّخصية والاعتراف الذّاتي بهذه الشّخصيّة، تفقد منطقيّا حقّها بالاعتراف الموضوعيّ بها كشخصيّة.

4.3- الإنسان أولاً أم الدّين:


النّظام المدنيّ ينطلق من إنسانيّة الإنسان، ويترك له حريّة ممارسة دينه في إطار هذه الإنسانية، فكلّ دين وكلّ فكر ومعتقد على الأرض يفترض فيه أن يكون لصالح وخير الإنسان، ولا خير في أيّ دين أو معتقد يتناقض مع الإنسانيّة، وكلّ إنسان رصيده الإنسانيّ هو معيار رقيّه وقابليّته للحياة الإنسانيّة، فإن كان مثلاً غير المسلم يرى المسلم إنساناً، فعلى المسلم أن يقدّم له إسلامه في إطار هذه الإنسانيّة وأن ينظر إليه عبر هذا الإطار، إن كان يسعى للاعتراف المتبادل والتّعايش البنّاء معه، وهذا يقتضي منه حكماً عدم السّعي إلى حكمه بالإسلام، كما يرفض هو أن يحكم بأيّ دين غير دينه، (وهذا يمكن سحبه على المواقف والعلاقات المذهبيّة الإسلاميّة)، فالحكم بأيّ دين هو إخلال بالمساواة بين أتباع هذه الدّين وأتباع سواه، والواجب هنا اعتماد نظام الحياد الدّيني، أي الفصل بين الدّولة والدّين، وهذا هو سبيل الحياة ولغة العقل ومنطق العصر وروح التّاريخ الحديث، وبغير ذلك ستبقى حاضرة أخطار الوهم والإلغاء والإقصاء والصّراع، وعلى أيّ متديّن بصفته إنساناً من النّاس أن يراهن معهم على الإنسان والعقل والعصر، وهذا هو الرّهان الرّابح، أمّا "الإسلام السّياسيّ" الرّاهن و"حلّه الإسلاميّ" المزعوم وكلّ "نظام استبداديّ"، وكلّ "معتقد ستاتيكيّ" أو "شموليّ"، فهي رهانات خاسرة، وغير قابلة للحياة ولا تقبلها الحياة.. وهي رهانات خارج منطق العصر.

 كما يجدر هنا التّركيز على إيضاح مسألة جدّ جوهريّة في الطّرح المدنيّ، وهي بعده عن الإيدولوجيا والتّمذهب السّياسيّ، وكونه طرحا ًعلمياً منهجيّاً محضاً، محايداً تماماً من النّاحية الإيديولوجيّة والعقائديّة، وبالتّالي فمواجهته مع الطّرح الإسلاميّ السّياسيّ ليست منافسة بين إيديولوجيا وإيديولوجيا أخرى كما يدعي أو يتوهّم الإسلاميّون السّياسيّون، وهذا ليس غريباً عن الذّهنيّة المذهبيّة العصبيّة، الّتي لا تستطيع أن ترى تجاوز القواقع الطائفيّة والتّعصبيّة في عقلانيّة وإنسانيّة الطّرح المدنيّ الشّاملة، فالمتعصّب الطّائفيّ لا يستطيع أن يرى كلّ المختلّفين عنه إلّا في مسوح الطائفية والتعصب المضادّة، أما الطّرح المدنيّ فهو مواجهة بين عصريّة العقل والعلم والمعرفة من جهة وسلفيّة الغيب والتسليم والوهم من جهة أخرى.

 ويجدر بنا هنا تكرار وجوب الحذر من إساءة فهم كلمة "سلف"، فسلفنا الإسلامي الأقدم، هو عموما سلف صالح، ولم يكن في حالة تناقض مع العقل والعلم، وهذا سلف عصر الحضارة الإسلامية، لكن سلفا آخر تلاه، وهو سلف عصر الانحطاط، وما هو بسلف صالح حضاريا، لم يكن من أهل العقل ولا العلم، وهذا السلف اللاحضاري هو الّذي ما زالت تقاليده وذهنيته تهيمن على حاضرنا، إنّه "السلف الانحطاطيّ"، وهو ما نوّجه سهمانا إليه، وهو مختلف جدّا عن "السلف الحضاريّ" الذي نعتز به.



خاتمة:


بناء على ما تقدّم من إشكاليّات ترتبط بمشروع الإسلام السّياسيّ وحلّه الإسلاميّ المفترض،  يمكننا القول أنّه حلّ غير واقعيّ، ولا يمكنه أن يحقّق الطّموحات في بناء المجتمع الحديث المتطوّر، ويمكن إيجاز أسباب ذلك في ما يلي:

1-  قيامه على منهجيّة ميتافيزيقيّة، مفارقة للواقع الإنسانيّ، مما يجعل الأفكار المطروحة فيه إسقاطيّة من الخارج على هذا الواقع، وهذا يشبه حالة استيراد مشروع أجنبي وفرضه على واقع محليّ، وهذه الإسقاطيّة لا تنحصر فقط في إسقاط المعتقد السّرمدي على الواقع الظّرفيّ وحسب، بل وتتعدّاها إلى إسقاط الماضي السّلفي على الحاضر الرّاهن.

2- إيمانه بامتلاكه الحقائق المطلقة المقدّسة، ومن طبيعة المطلقات والمقدّسات الثّبات وعدم التّغير، وهذا يعني في كثير من الحالات العجز عن الاستجابة لمتغيّرات الواقع وضرورات التّغيير.

3- تبعيّته للسّلف، وعدم قدرته على تجاوزه، وهذا يعني غياب القدرة الكافية على التّفاعل مع الظّروف الرّاهنة، ومواكبة التّطوّرات السّريعة في العالم المعاصر.

4- تقديمه للنّقل على العقل، ممّا يعني إمكانيّة إقصاء العقل والعلم في التّعامل مع المشاكل، الّتي تقتضي حلولاً لا تتوافق مع الفهم السّائد للنّص المقدّس والفقه المعتمد، مما يبقيها مشاكل مستعصية قابلة للتّفاقم.

5-  طبيعته الإيمانيّة الّلاعقلانيّة، وقدرة قواه السّياسيّة على التّلاعب بعواطف عامّة النّاس، وتجييشهم إن اقتضى الأمر للضّغط لفرض أمر واقع بالغلبة عند اتّخاذ القرارات الهامّة، وهذا يعطي المجال الأوسع للانتهازيين لاستغلال الدّين وفقاً لمصالحهم الخاصّة، وللمتعصّبين لفرضه تبعا لتصوّراتهم الخاصّة.

6- طبيعته العنصريّة والذّكوريّة، الّتي تميّز بين النّاس على أساس الدّين والجنس، ولا تحقق حالة المساواة المواطنيّة، ولا تضمن مبدأ الكفاءة في المسؤولية، وهذا يبقي حالة الانقسام الطّائفي، ومشاعر انتقاص الانتماء والمواطنة عند فئات واسعة من المواطنين، كما أنّه يحرم الدّولة من الاستفادة من الكفاءات، عندما تتقدّم الصّفة الطّائفية على الكفاءة التّخصصيّة.

7- طبيعته الشّموليّة القائمة على الإيمان بامتلاك الحقيقة المطلقة، وهذا مبدأ تأسيسيّ لأطروحة المستبدّ العادل، الّتي لن تكون على أرض الواقع إلّا ديكتاتوريّة تحظى ببركة سماويّة، وهي أسوأ أنواع الدّيكتاتوريات.

وقد أثبتت المحاولات الحديثة الّتي قام بها الإسلاميّون لبناء الدّولة الإسلاميّة فشلها الذّريع المتكرّر، ورغم أن تجربة كالحالة الإيرانيّة، لا يمكن تجاهل إنجازاتها في العديد من الميادين الصّناعيّة والتّكنولوجيّة، لكن على الصّعيد الاجتماعيّ الوضع مختلف، والاحتجاجات الشّبابيّة المتكرّرة، هي مؤشر جدّيّ على عدم قدرة هذا النّظام على أن يكون الخيار المُرضي لطموحات شبابه المعاصر، المتعارضة بشدّة مع طبيعته المحافظة والشّمولية، الّتي تشعر شبابه بالتّغييب والاستلاب، وهذه المشكلة مصيرها التّفاقم مع ازدياد البون بين هذا النّظام المحافظ والعصر المتغّير المتطور، إضافة إلى ما تتسبـّب به الخصومات والنّزاعات الإقليمية والدّولية، المرتبطة بدرجة كبيرة بطبيعة هذا النّظام المذهبيّة، والّتي تـُفرض عليه أو يتورّط هو نفسه بها، من تبعات سيّئة على الاقتصاد وظروف المعيشة.

ما تقدّم ينطبق على أيّ نظام إسلاميّ آخر قائم أو محتمل، مضافاً إليه خطر الصّراعات الأهليّة  المدمّرة، كحال لبنان وأفغانستان والسّودان والصّومال واليمن وسواها، حيث استغلّ أو مازال يستغلّ التّنوع الدّينيّ ويزج في العنف بأبشع الأشكال، وقد امتدت هذه الحالة إلى سوريا والعراق وليبيا، وهذا مرشّح الحدوث في أيّ مكان إسلاميّ آخر، حتّى وإن لم يكن فيه تعدّدية طائفيّة، فشعوبيّة القوى الإسلاميّة السّياسيّة التّقليديّة، تجعل طبيعتها التّنظيميّة جدّ هشة، ومهدّدة دائماً بالانزلاق إلى العنف، والانقسام والخلاف والصّراع، وقد حدث هذا بين قوّة سنيّة- سنيّة في كلّ من أفغانستان وليبيا وسوريا وغيرها، وسبق أن حدث أيضا بين قوى شيعيّة- شيعيّة كالمواجهات بين حزب الله وحركة أمل في لبنان في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي.

وفي المحصلة الحلّ الإسلاميّ المزعوم، لن يكون قطعا حلاً، بقدر ما هو إغراق في المشكلة وتعظيماً لها.

***

 مراجع البحث:


(حسب التّرتيب الأبجديّ)


1- د.أبو المعاطي أبو الفتوح، "حتميّة الحلّ الإسلاميّ، تأمّلات في النّظام السّياسيّ"، مطبعة الجبلاوي، القاهرة، 1977.

2- أولريش شيفر "انهيار الرّأسماليّة، أسباب إخفاق اقتصاد السّوق المحررّة من القيود"، ترجمة  د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 371، يناير 2010.

3- أوليفيه روا، تجربة الإسلام السّياسيّ، ترجمة نصير مروة، دار السّاقي، بيروت 1996.

4- د.حسن السّيد بسيوني، الدّولة ونظام الحكم في الإسلام، عالم الكتب، القاهرة،1985.

5-  د. بسّام الشّكعة، إسلام بلا مذاهب، الدّار المصريّة الّلبنانيّة، القاهرة، ط 11 1996.

6- عبد المنعم مصطفى حليمة أبو بصير، حكم الإسلام في الدّيموقراطيّة والتّعدديّة الحزبيّة، المركز الدّوليّ للدّراسات الإسلاميّة، لندن، ط2 2000.

7- عثمان على عطا، مجالس الشّورى فى عصر سلاطين المماليك، الدّار الثّقافية للنّشر، القاهرة،

ط1 2008.

8- مجموعة من المؤلّفين،الإسلام السّياسيّ وآفاق الديموقراطيّة في العالم الإسلاميّ، مركز طارق بن زياد للدّراسات والأبحاث، الرّباط، 2000.

9- د. محمد سعيد رمضان البوطي، هذه مشكلاتنا، دار الفكر، دمشق، ط3 2008.

10- محمد عبد الفتّاح فتوح، الدّيمقراطيّة والشّورى في الفكر الإسلاميّ المعاصر: دراسة في فكر الشّيخ محمد الغزالي، المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، القاهرة، 2006.

***

 حواشي البحث:


[1]-  أوليفيه روا، تجربة الإسلام السّياسيّ، ترجمة نصير مروّة، دار السّاقي، بيروت 1996، ص 5.

[2]-  قضيّة الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة والأصل الإسلاميّ أدركها الكثيرون منذ وقت مبكر نسبيّا، فـ "حينما تعدّدت الآراء حول العقيدة الإسلاميّة، وتعدّدت المذاهب الّتي يعتمد بعضها على الفلسفة حيناً والعقل حيناً آخر، واشتدّت الملاحاة بين هؤلاء وهؤلاء، رأى فريق من أئمة الإسلام أن يردّوا كلّ ما يتعلّق بالعقيدة الإسلاميّة إلى طبيعتها الأولى حسبما كانت عليه في أيّام الصّحابة والتّابعين، فلا يأخذونها إلا من معينها الأصليّ ومنابعها الأولى، أيّ الكتاب والسّنة، فنهج هؤلاء الطّريقة الّتي كان يتبعها السّلف الصّالح، ولذلك أطلقوا على أنفسهم  لقب"السّلفيّين"".
لكنّ هؤلاء ما لبثوا أن تحوّلوا بدورهم إلى مذهب أو فرقة، وانفردوا بآراء ومعتقدات خاصة، فـ "وقف منهم جمهور أهل السّنة موقف غير اتفاق في كثير من المسائل وردّ عليهم الحجّة بالحجّة".
- د. بسام الشّكعة، إسلام بلا مذاهب، الدّار المصريّة الّلبنانيّة، القاهرة، ط 11 1996، ص 491-494.

[3]-  يقول الدّكتور محمد عبد الله العربيّ بهذا الصّدد: "تضمّن ّكلّ منّ القرآن والسّنة مجموعة من التّوجيهات الإلهيّة من ربّ العالمين، هذه التّوجيهات تمثّل الأصول الثّابتة التّي تمكّن البشر من البناء عليها والاهتداء بها في كلّ تنظيماتهم السّياسيّة والاقتصاديّة والدّوليّة بما يكفل لكلّ جيل إشباع مطالب زمانه، والوفاء بحاجات بيئته على خير وجه.
- د. محمد عبدالله العربيّ، نظام الحكم في الإسلام، دار الفكر، دمشق، 1968، ص17.

[4]-  وهذا ما يعترف به الإسلاميّون السّياسيّون أنفسهم، فالدّكتور  حسن السّيد بسوني  يقول: ( كتب لهذه المبادئ والأصول التّطبيق الصّحيح الواقعيّ في صدر الدّولة الإسلاميّة، ثمّ انحرف التّطبيق في العصور التّالية بأن سار بين انحراف في أكثره واستقامة في أقله، ثمّ التبس الأمر على البعض، فخلط بين الأصل والتّطبيق، وفسّرت الأصول والمبادئ على ضوء هذا التّطبيق المنحرف).
- د.حسن السّيد بسيوني، الدّولة ونظام الحكم في الإسلام، عالم الكتب، القاهرة، 1985، ص 8.

[5]- عبد المنعم مصطفى حليمة أبو بصير، حكم الإسلام في الديّمقراطيّة والتّعدّديّة الحزبيّة، المركز الدّولي للدّراسات الإسلاميًّة، لندن، ط2 2000.

[6]-  وفي هذا السّياق يقول أوليفيه روا: "إن المتخيّل الإسلاميّ يقبل، بل يطالب بالفرضيّة التي تقول إن الإسلام رؤية أزليّة. فالنّصوص الغالبة في الثّقافة الإسلاميّة السّنية، نصوص الإصلاحييّن السّلفييّن والإسلامييّن المعاصرين أيضا، تفهم الإسلام على أنّه لا زمنيّ ولا تاريخي ّوغير قابل للنّقد".ّ
- أوليفيه روا، المرجع  السّابق، ص 20.

[7]-  يقول ابن مقصد العبدليّ: "إن القوانين والدّساتير الوضعيّة في جميع الدّول العربيّة كفر تخرج مشرّعها، والقائم عليها، والحاكم بها، والمدافع عنها من دين الإسلام، ومن خالف شرع الله أو عطّل حدوده كفر وارتدّ عن الإسلام".
- ابن مقصد العبدليّ، أدلّة الكتاب والسّنة على كفر أنصار الأنظمة المارقة، Global Publishing Online, ٢١‏/٠٩‏/٢٠١٧، ص 99.

[8]-  يشير أوليفيه روا إلى أنّه "على الفور ينتقل النّقاش لدى الإسلامييّن حول المؤسّسات إلى تحديد الفضائل والصّفات الشّخصيّة للأشخاص المؤهّلين لتولّي مختلف الوظائف، والحال أنّنا إذا استثنيا عددا من المعايير "الموضوعيّة" (مثلا أن يكون رئيس الدّولة ذكراً مسلما صحيح العقل)، فإن الصّفات الأخرى ذاتيّة محضة، لأنّها تركّز بالكامل على الفضيلة (التّقوى) والإيمان والمعرفة. وهذا التّغليب للصّفات الشّخصيّة على تعيين الوظيفة، يحول دون بروز تفكير حول موضوع المؤسّسات. فالوظائف المؤسّسيّة لا قيمة لها إلا بمقدار فضائل من يتولونها".
- أوليفيه روا، المرجع السّابق، ص 66.

 [9]-  د.أبو المعاطي أبو الفتوح، "حتميّة الحلّ الإسلاميّ، تأمّلات في النّظام السّياسيّ"، مطبعة الجبلاوي، القاهرة، 1977، ص 5.

[10]-  د. محمد سعيد رمضان البوطي، هذه مشكلاتنا، دار الفكر، دمشق، ط3 2008، ص 63.

[11]-  أولريش شيفر "انهيار الرّأسماليّة، أسباب إخفاق اقتصاد السّوق المحرّرة من القيود"، ترجمة: د. عدنان عبّاس علي ،سلسلة عالم المعرفة، العدد 371، يناير 2010.

[12]-  هذه النّسبة تتعلّق بالمال المنمّى الّذي يتجاوز حدّا معيّناً يسمّى "النّصاب"، أيّ المال الّذي يستثمر ويدرّ ربحا،  واّلذي تسمى زكاته بـ "زكاة عروض التّجارة"، كما تتعلّق أيضاً بالمال القابل للاستثمار اّلذي لا يتمّ استثماره، كالأوراق النّقدية المدّخرة والمعادن الثّمينة والمجوهرات وتطبّق عليه "زكاة الأثمان"، أما "زكاة المحاصيل الزّراعية" فتبلغ 10%، فيما تتبع "زكاة الأنعام" النّوع (إبل، بقر، غنم...)، فالنّسبة للغنم مثلاً هي تبدأ من عدد 40 رأس و تبدأ بـ 2.5 %، و لكنّها تنخفض صعودا لتصبح 1 % عند 400 رأس وما فوق، ونسبها قريبة من ذلك عموما بالنّسبة للبقر و الإبل، وتنخفض أيضا مع ازدياد عدد الرّؤوس.
- سعيد بن وهف القحطانيّ، الزّكاة في ضوء القرآن والسّنة، مركز الدّعوة والإرشاد بالقصب، السّعودية، ط3 2010.

[13]-  أصدرت جبهة علماء الأزهر  في جريدة النّور في 1\ حزيران-يونيو\ 1992 بياناً يتهم فرج فودة بالرّدة بسبب طرحه للعلمانيّة، وهذا يوجب قتله كمرتدّ، وصاحب فتوى قتل فرج فودة هو الشّيخ الأزهريّ عمر عبد الرّحمن، الزّعيم الرّوحيّ للجماعة الإسلاميّة.

[14]- ويجدر بنا هنا  ذكر جرائم الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة في الآونة الأخيرة بحق ّالآخرين من سبي الإيزيديّات وذبح الإيزيدييّن في العراق من قبل داعش ، وقد بدأ هذا مع سقوط الموصل بيدها في 10 يونيو/حزيران 2014، إلى تكفير دروز إدلب وإجبارهم على تغيير مذهبهم من قبل جبهة النّصرة وحلفائها في سوريا، وكان من جرائر ذلك مجزرة قرية "تلّ لوزة" في  10 ‏يونيو/حزيران 2015، إلى مجزرة جامع الرّوضة اّلذي يرتاده الصّوفيون وسواهم  في سيناء المصريّة على أيدي تكفيرييّن موالين لداعش في 24 نوفمبر/تشرين الثّاني 2017، وهذه بعض أمثلة، هذا ناهيك عن الصّراعات بين هذه القوى نفسها كصراع داعش مع النّصرة، و صراع النّصرة مع  أحرار الشّام، وصراع جيش الإسلام مع جيش الأمّة ومع فيلق الرّحمن في سوريا، والكثير غيرها ..

[15]-  يكفي هنا أن نذكر أن نشأة "الشّيعة" و"الخوارج" ارتبطت بالخلاف الذي ثار حول حقّ علي بن أبي طالب في الخلافة مباشرة بعد وفاة النبيّ؛ وأنّ ظهور فرقة الإسماعيّلّية ارتبط بالخلاف في أوساط الشّيعة بعد وفاة الإمام جعفر الصّادق حول حقّ ابنه البكر اسماعيل أم  ابنه الآخر موسى بالإمامة.

[16]-  وهذا ما أجاد البوطي توصيفه بقوله: (هذه هي مأساة العمل الإسلاميّ، الّذي تحوّل إلى جهد خائب وسعي ضائع، وأخفى عن كثير من الأذهان الحقيقة العلويّة المشرقة للإسلام، ثمّ أبرز له صورة زائفة أخرى ما هو منها في شيء تبعث على الاستيحاش والنّفور منه، بل وربّما بعثت على الارتياب في مصدره  وحقيقته).
- د. محمد سعيد رمضان البوطي، المرجع السّابق، ص 62.

[17]-  ورد على موقع "تطبيقات الشّيخ بن باز"، وهو مفتي سابق للسّعوديّة بخصوص مقولة (المرأة كلّها عورة إلا يديها ووجهها في الصّلاة) أنّها ليست حديثاً نبويّا ولكنّها من كلام بعض الفقهاء.
http://www.binbaz.org.sa/noor/11151

لكن حديث (إنّ المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان وأقرب ما تكون من وجه ربّها وهي في قعر بيتها)، وفقا لموقع "المجلس العلميّ" أو "الألوكة" أي "الرّسالة"، الذي يشرف عليه د. سعد بن عبدا لله الحميد ود. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، هو حديث صحيح، وقد أخرجه التّرمذي وابن خزيمة وابن حيان وغيرهم.
http://majles.alukah.net/t52754/
وهذا ما نجد تأكيده وتخريجه أيضا على موقع الدّكتور سالم الطّويل.
http://www.saltaweel.com/articles/175

[18]- هذا الأمر فيه جدل بين من يرى عدم جواز الخروج على الحاكم الظّالم ما دام يصلّي ولا يمنع النّاس من الصّلاة، وبين من يرى الخروج عليه واجباً إذا أقام بعض الشّرائع وخالف بعضها.
 https://ar.wikipedia.org/wiki/خروج على الحاكم

[19]-  وهذا الأمر فيه جدل بين من يرى أن الشّورى ملزمة  للحاكم كالشّيخ محمد الغزالي الّذي يقول فى كتابه «الإسلام والاستبداد السّياسىّ»: «أخطأ من المفسّرين من وهم أن الشّورى غير ملزمة، فما جدواها إذن؟ وما غناؤها فى تقويم عوج الفرد إذا كان من حقّه أن لا يتقيّد بها؟ وأين فى حياة الرّسول وسيرة خلفائه -الرّاشدين- ما يدلّ على أنّ الحاكم خرج على رأى مستشاريه ومضى فى طريقه وحده؟»؛ وبين من لا يراها كذلك و يقول أن ّ"الشّورى مُعلِمة.. وليست مُلزِمة" كالشّيخ الألباني، الّذي يرى أن المستشير يجمع الآراء من مستشاريه كما تجمع النّحلة الرّحيق من الأزهار المختلفة، ثمّ يفاضل بينها و يختار أنسبها، وهذا يعني بالتّالي أنّ كلّ رأيّ بحدّ ذاته غير ملزم، وأنّه من حيث المبدأ يمكن للحاكم أن يتجاوز كلّ مستشاريه، وهذا الموقف تبناه أنصار محمّد مرسي من الإخوان المسلمين؛ وبين من يراها ملزمة في أمور دون أمور، فهي برأي بعضهم ملزمة في الأمور التي تقوم عليها الدّولة، وغير ملزمة في الأمور التي تمس ّالحاكم ولا تمسّ الدّولة، ويمكن بهذا الشّأن العودة إلى المراجع التّالية:
 - عثمان على عطا، مجالس الشّورى فى عصر سلاطين المماليك، الدّار الثقّافيّة للنّشر، ط1، القاهرة، 2008
- محمد عبد الفتاح فتوح، الدّيمقراطيّة والشّورى في الفكر الإسلاميّ المعاصر: دراسة في فكر الشّيخ محمد الغزالي، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، القاهرة، 2006
- محمد ناصر الدّين الألبانيّ، هل الشّورى للحاكم ملزمة أو مُعلِمَة؟، موقع "النّهج الواضح":
http://ar.alnahj.net/audio/1010

[20]-  خالد عويس، حزب التّحرير الإسلاميّ: العالم كلّه بما فيه بلاد المسلمين "دار كفر"، العربيّة.نت، 1تشرين الثّاني\نوفمبر 2010م.
 https://www.alarabiya.net/articles/2005/01/27/9854.html

[21]- ابن مقصد العبدليّ، الأدلة النّبوية على كفر الأنظمة العربيّة، Global Publishing Online, ٢٣‏/٠١‏/٢٠١٧، ص66.

[22]-  د.أبو المعاطي أبو الفتوح،المرجع السّابق، ص 6.

[23]-  مجموعة من المؤلّفين،الإسلام السّياسيّ وآفاق الديمقراطيّة في العالم الإسلاميّ، مركز طارق بن زياد للدّراسات والأبحاث، الرّباط، 2000، ص21.

[24]- من تداعيّات ذلك مثلاً، كانت حادثة جلد الفتاة الجنوبيّة سيلفا ذات الـ16 عاماً خمسين جلدة علنا في الخرطوم من قبل الشّرطة السّودانية في تشرين الثّاني (نوفمبر) عام 2009، بناءً على أحكام القانون العام لارتدائها تنورة حَكمَ قاض شرعيّ عليها بالخلاعة بعد اعتقالها من قبل شرطيّ في السّوق، رغم أن اتّفاق السّلام المبرم عام 2005 لإنهاء عقود الحرب الأهليّة بين شمال السّودان وجنوبه، كان يفرض على الخرطوم التّخفيف من حدة تطبيق الشّريعة الإسلاميّة على أهل الجنوب الّذين يعيشون في الشّمال، وهناك العديد من مثيلات هذه الحادثة وشبيهاتها ممّا كان يفرض باسم الإسلام على غير المسلمين.

*
هذا البحث منشور لدى "مؤسسة مؤمنون بلا حدود"




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق