فهرس المحتويات

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

المبادئ الحاكمة للدستور بين المنطق والقانون

المبادئ الحاكمة للدستور بين المنطق والقانون

رسلان عامر


منذ انطلاقة الربيع العربي، التي ما تزال مستمرة رغم الكبوات والعثرات، صارت عبارة "المبادئ الحاكمة للدستور أو المبادئ فوق الدستورية" تتردد بشكل متكرر في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي، وهذا ليس غريبا في عملية الانتقال إلى الديمقراطية التي لا تنفصل عن عملية بناء الدولة الحديثة، والتي لا تتحقق بدورها إلا بوجود دستور عصري مناسب، يحدد المبادئ التي تقوم عليها هذه الدولة، وينظم ويضبط آليات عملها.
واليوم مع ما تشهده الساحة العربية من تغيرات جذرية، سلمية أو عنفية، لم يعد الحديث في الأمور الديمقراطية مجرد كلام نظري وحوارات نخبوية تجري في الدوائر والصالونات الخاصة بالنخب بعيدا عن الواقع، فالنقاشات التي تجري اليوم في هذا الميدان باتت جزءا حقيقيا من هذا الواقع الذي يتغير سياسيا واجتماعيا، وهو جزء جوهري وجدلي في علاقته مع عملية التغيير نفسها، التي لا يمكن القيام بها بالشكل الصحيح إن هي لم تكن متواكبة مع الفكر الصحيح، القائم على معطيات العقل والعلم والواقع والعصر، والمعتمد على كل من أنجزته الإنسانية المعاصرة في ميدان بناء المجتمع والدولة الإنسانيين الحديثين.
وهكذا يصبح من الضروري جدا مناقشة كل المسائل السياسية والاجتماعية المرتبطة بقضية بناء الدولة الحديثة، وفي هذا السياق تحتل الأمور الدستورية أحد مواقع الصدارة، لما لها من أهمية كبيرة في بناء وعمل الدولة العصرية.

هذه المسألة أصبحت ذات أهمية استثنائية في اللحظة الراهنة بالنسبة لنا كسوريين، وبالأخص مع إتمام عملية تشكيل اللجنة الدستورية، التي ستباشر عملها قريبا لإعداد دستور جديد للبلاد يرسم شكل وحدود الحل السياسي بعد صراع عنيف تجاوز الثمانية سنوات ولم ينته بعد.
ومن الواضح في هذه اللحظة، أن هذا الدستور المنتظر أصبح نظريا قاعدة هذا الحل السياسي المفترض، أما عمليا فمن المبكر جدا إبداء التفاؤل في انطلاقة هذا الحل بشكل حقيقي، لكن الحكم بشكل مسبق بفشل اللجنة الدستورية، التي أصبح الحل منوطا بها في اللحظة الراهنة، هو أيضا مبالغة في التشاؤم، والموضوعية في المواقف تقتضي إصدار الأحكام بناء على معطيات عملية عن كيفية عمل هذه اللجنة على أرض الواقع، وهو أمر لن يطول انتظاره، وسيبدأ قريبا في الاتضاح.
وعلى أية حال تبقى هذه اللجنة واقعيا حلقة في مسلسل البحث عن حل، وأيا كان دورها في هذا الحل، فهي تربط بمسألة أساسية، وهي مسألة الدستور السوري المطلوب لسوريا المستقبل، وهي مسألة يجب أن نوليها الاهتمام الكافي ما دمنا مؤمنين بمستقبل سوري أفضل.

إن صياغة دستور جديد هي قضية ملحة لكل عملية تغيير سياسي جذري، وهذا يعطي أهمية كبرى للطريقة التي تتم بها عملية الصياغة هذه، والأسس والمبادئ التي تعتمد عليها، فكأية عملية إنتاج أخرى، تتحدد جودة المنتج بمدى كفاءة وسلامة عملية الإنتاج نفسها.
تتلخص الوظائف الأساسية للدستور وفقا لآراء بعض المختصين في هذا المجال في ثلاث وظائف، وهي:
تحديد وتنظيم العلاقة بين فروع السلطة الثلاث؛ وبين الدولة والشعب والفرد؛ وبين الأكثرية والأقلية.
وتسعى كل الدساتير الحديثة لتحقيق توازن كاف في هذه الميادين، بحيث تمنع تغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وتمنع تغول الدولة على الشعب والفرد، وتغول الأكثرية على الأقلية، فتضع- أي هذه الدساتير- القواعد الرئيسة الناظمة والضابطة لعمل السلطات الثلاث، بحيث تمارس كل سلطة وظائفها التخصصية باستقلالية ودون تدخل من السلطات الأخرى، ولكن بشكل يتكافأ ويتكامل فيه عمل السلطات الثلاث، وتكون فيه كل سلطة من هذه السلطات خاضعة للقوانين، وخاضعة لرقابة السلطتين الأخريين بموجب هذه القوانين، التي يجب أن تكون من حيث المبدأ مصاغة أيضا بشكل يحقق التوازن ويضمن الكفاءة في عمل كل من هذه السلطات؛ كما تضع هذه الدساتير الضوابط لآلية عمل الدولة وعلاقتها مع المواطنين، بحيث لا تسمح بحدوث أية انتهاكات أو اعتداءات على حقوق وحريات الإنسان؛ كما تنظم وتضبط العلاقات بين الأكثرية والأقلية أيضا بشكل يحمي حقوق وحريات الإنسان، وبما يحقق مبدأ المساواة بين جميع المواطنين على أساس إنسانيتهم ومواطنيتهم.

لصياغة الدساتير بشكل ديمقراطي عادة إما يتم تشكيل جمعية تأسيسية يتم انتخابها بشكل مباشر من قبل الشعب لهذه الغاية، وبالتالي تصبح هذه الجمعية مفوضة من قبل الشعب ومسؤولة أمامه في هذه المهمة الموكلة إليها؛ أو يتم تكليف "لجنة دستورية" لتقوم بصياغة الدستور، ومن ثم يتم الاستفتاء على الدستور من قبل الشعب، وفي هذه الحالة تنشأ إشكالية تتعلق بشرعية الجهة أو الجهات التي تقوم بتكليف هذه اللجنة وبكيفية اختيار أعضائها، والأسلوب الأكثر مقبولية في هذه الحالة هو قيام القوى السياسية الفاعلة على الأرض بالتشاور، إذ ليس من المقبول أن تقوم السلطة التنفيذية أو التشريعية القائمة بمهمة التكليف هذه، لأنها هي نفسها تعتبر من منتجات الحالة الدستورية السابقة، التي أصبح من الضروري تعديلها نتيجة عدم كفايتها، وبالتالي تصبح عملية التكليف هذه من قبل السلطات القائمة حاملة لمخاطر نقل عدم الكفاية إلى الدستور الجديد، المفروض فيه تجاوز حالة نقص الكفاية هذه، وهذا الحال يتعلق بالنظم السياسية المستقرة، أما في حالة الخلاف أو النزاع، فلا تعود السلطات القائمة متمتعة بالشرعية الكافية للقيام بمثل هذا التكليف من الأساس؛ وإضافة إلى ما تقدم يمكن أيضا إجراء انتخابات تشريعية يتم فيها انتخاب مجلس نواب جديد، ويقوم هو بدوره بتشكيل لجنة دستورية، ومن حسنات هذه الطريقة أنها تحل الخلافات التي يمكن أن تنشأ بين الأحزاب حول مشكلة مستوى التمثيل الشعبي، لكن من سيئاتها أنها أيضا كثيرا ما تنعكس فيها سلبيات المرحلة السابقة على المرحلة الجديدة عبر عملية الانتخاب.

وكما نلاحظ، ففي كل الحالات تكون عملية صياغة الدستور ديمقراطيا مرتبطة بإجراء ديمقراطي آخر هو "التصويت"، الذي إما يتم بشكل مسبق عند انتخاب "جمعية تأسيسية" أو بعد الصياغة عند "الاستفتاء" على الدستور المصاغ، أو عند انتخاب سلطة تشريعية جديدة، وهذا يعني أن إرادة الشعب هي التي تعطي الدستور شرعيته.
طبعا هذا الكلام لا ينطبق دوما على كل الحالات، ففي الأوضاع الشديدة التأزم، حيث تكون الحلول الجذرية مستعصية، عادة ما يلجأ إلى تسويات، تخرج عادة بأنصاف حلول، وهي في أحسن الأحوال يمكن اعتبارها مرحلة تمهيدية للحلول الحقيقية، وإذا ما أردنا التعامل بموضوعية مع الوضع السوري المستفحل الأزمة اليوم، فهذا أقصى ما يمكن انتظاره -مع التفاؤل- من اللجنة الدستورية السورية.
ففي الوضع المتدهور اليوم على الساحة السورية، لا يمكن بشكل حقيقي لا انتخاب جمعية تأسيسية ولا التشاور بين القوى السياسية الموجودة لتشكيل لجنة دستورية، ولا التصويت على الدستور الذي تصوغه مثل هذه اللجنة، ولا إجراء انتخابات تشريعية.

لكن حتى في الحالات التي يكون كل ذلك ممكنا، تبقى ثمة إشكالات حساسة تتعلق بعملية صياغة الدستور، وفحوى هذه الإشكالات تكمن في الشروط التي تحكم عملية الصياغة نفسها، فهل يجب أن يكون هناك مبادئ محددة مسبقا تحكم عملية الصياغة هذه، أم أن هذه العملية مفتوحة وغير مقيدة بأية مبادئ  أو حدود مسبقة يجب مراعاتها أو عدم تجاوزها؟
هذه المسألة طرحت مرارا على الساحة العربية الراهنة وما زالت تطرح، فقد طرحت مثلا  في مصر بعد نجاح ثورة يناير أثناء العمل على صياغة دستور جديد للبلاد، وهي اليوم تطرح في السودان بعد سقوط الديكتاتورية، كما تطرح أيضا حتى على الساحة السورية، وهذه المبادئ أو الشروط المسبقة عادة ما تسمى بـ "المبادئ فوق الدستورية" أو "المبادئ" الحاكمة للدستور"!
وقد تكون الغاية منها وضع قيود على العملية الدستورية تتناسب مع إرادات أو مصالح قوى تخشى من عملية التغيير، أو الحصول على ضمانات من قبل القوى المناصرة للتغيير بأن العملية الدستورية ستمضي في اتجاه التغيير الصحيح، وأنها لن تحرف أو تلتف على الاستحقاقات المطلوبة!

فإذا عدنا إلى التجاذبات السياسية التي كانت تجري على الساحة المصرية بعد سقوط نظام مبارك في عامي 2011و 2012، سنجد أن هذه المسألة قد أثيرت ونالت قسطا وافرا من الاهتمام الإعلامي، حيث طالبت القوى العلمانية والليبرالية بدعم من الجيش بوضع "مبادئ حاكمة للدستور"، الذي كانت تقوم على صياغته جمعية تأسيسية ترجح فيها كفة القوى الإسلامية، والذي كان سيطرح للتصويت أيضا على شارع تغلب عليه القوى الإسلامية، ما جعل كلا من القوى المدنية والجيش تتخوف من هيمنة الإسلاميين على الدولة، وإعطاء هذه الهيمنة شرعية دستورية عبر صياغة دستور في ظروف مؤاتية للإسلاميين، وقد أرادت القوى العلمانية والليبرالية من طرح هذه المبادئ وضع ضمانات تضمن عدم أسلمة الدولة، فيما أراد الجيش الحفاظ على نفوذه السلطوي التقليدي على الساحة المصرية، وكان موقف الإخوان المسلمين وحلفائهم من القوى الإسلامية رافضا تماما لهذا الطرح، وقد اعتبره بعضا من قيادييهم "بلطجة سياسية"، وأصروا على عدم شرعية مثل هذا الطرح، مطمئنين إلى غلبتهم في الجمعية التأسيسية وعلى الشارع السياسي، بما يمكنهم من دفع مسار العملية السياسية بما يخدم توجهاتهم ومصالحهم، وقد ساعدهم في ذلك مواقف بغض الخبراء الدستوريين، الذين لم يكونوا مؤيدين سياسيا لقوى الإسلام السياسي، ولكنهم قالوا من منطلق احترافي أن وجود مواد فوق دستورية أو حاكمة للدستور هو أمر مخالف للعلوم الدستورية.
بطبيعة الحال لم يكن الإخوان المسلمون وسواهم من قوى الإسلام السياسي حريصين على "قانونية" العملية الدستورية، ولكنهم كانوا حريصين على استغلالها لإضفاء الشرعية على ما يمكن أن تثمره سياسيا هيمنتهم على الجمعية التأسيسية والشارع الانتخابي، وهذا السلوك "الإسلاموي"، يمكن تكراره بشكل مشابه من قبل قوى أخرى كالديكتاتوريات الحاكمة، التي يمكنها أن تستغل هيمنتها السياسية على المجتمع لإنتاج مسرحية ديمقراطية تعطيها غطاء شرعيا عصريا!

هنا قد يقول قائل في ما يتعلق بالتجربة المصرية، أنه مهما كانت النوايا، فالطريقة المتبعة شرعية، وهي معززة بأساسين شرعيين هما: رأي الخبراء الدستوريين، والاحتكام إلى الشارع الانتخابي.
وقبل الرد على مثل هذا الطرح، لا بد من التنويه، أننا هنا نستخدم التجربة المصرية كمثال، لأنها قابلة للتكرار بشكل مشابه على الساحات العربية الأخرى، وليس من قبل القوى الإسلامية وحدها، إذ يمكن للديكتاتوريات الحاكمة أن تسعى للعب مثل هذه اللعبة.
عمليا عند الحديث عن أية صياغة لدستور، فيجب الوعي مسبقا بأننا نتحدث عن عملية ديمقراطية بامتياز، فالفاعلية الدستورية لا يكون لها وجود حقيقي إلا في الأنظمة الديمقراطية، التي يكون فيها دور الدستور أساسيا في تنظيم عملها كأنظمة، أما في ما عدا ذلك من أنظمة فالدساتير لا تكون إلا غطاء شكليا لإضفاء الشرعية على الديكتاتوريات التقليدية أو غير التقليدية وإعطائها بعض مظاهر "الحداثة" أو مظاهر  "دولة القانون".

بالطبع لا يمكن علميا تجاهل آراء المختصين الدستوريين في ما يتعلق بـ "قانونية" المبادئ الحاكمة للدستور، ولكن ما يجب عدم إغفاله هنا أن هذا التقييم القانوني يقوم تماما من حيث المبدأ على أساس ديمقراطي وقوانين ديمقراطية وفي تقاليد ديمقراطية، وهو يقونن عمليات دستورية تجري في منظومات ديمقراطية، ما يجعل هذه العمليات حكما محكومة بالقواعد والمعايير الديمقراطية، وبالتالي تصبح هذه القانونية مجتزأة ومفصولة عن المنظومة التي تتكامل معها عضويا عند نقلها إلى بيئات غير ديمقراطية، وإن كانت تحاول الدمقرطة.
فعليا ليس هناك منطقيا أية عملية سياسية ديمقراطية أو غير ديمقراطية غير محكومة بمبادئ وقوانين، والقول بغياب مثل هذه الحواكم هو مثل القول بانفصال مشروع هندسي عن القوانين والمعطيات العلمية.
وبالنسبة لعملية صياغة الدستور، فلكي تكون محكومة بمبادئ أو قواعد غير دستورية، لا يشترط في هذه القواعد والمبادئ أن تكون مصاغة في وثيقة وعلى شكل مواد تشبه المواد الدستورية، ولكنها تكون مثبتة خارج النطاق الدستوري، على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة، التي تضع بشكل غير معلن أو معلن حواكم لأي دستور، فماذا نسمي مثلا إصرار الإسلاميين على إدراج مواد في الدستور تحدد دين رئيس الدولة ومصدر التشريع الأساسي فيها؟ أو ليست هذه المواد استجابة لثوابت دينية إسلامية حاكمة من خارج الميدان الدستوري؟ نفس الكلام ينطبق على سلوك القوميين العرب، وعلى سلوك أنظمة الحكم الحزبية، لكن بالمعايير الديمقراطية الحقيقية يعتبر إدراج أية فقرات دينية أو قومية أو حزبية أو ما شابه سلوكا غير شرعي، فهذه المعايير لا تقبل بنفس الوقت بوجود "مواد فوق دستورية" ولا بوجود مرجعيات غير ديمقراطية - دينية أو قومية أو حزبية وما شابه- للدستور.

في الديمقراطية، عند القيام بصياغة دستور جديد، لا تحتاج الهيئة المكلفة مثلا لمادة حاكمة فوق دستورية تقول لها "يجب عدم التمييز بين الجنسين" أو "يجب المساواة بين جميع الناس بمعزل عن الجنس والدين والقوم والانتماء السياسي" أو ما شابه، فهذه الأمور هي ثوابت نهائية في المعايير الديمقراطية، وأي دستور يتضمن موادا تخل بهذه الثوابت أو أية ثوابت ديمقراطية أخرى يكون باطلا ولا يعترف به ولا يطرح على أي استفتاء، وخلاصة هذا الكلام أن الدساتير في الديمقراطية بصفتها الوثيقة القانونية والحقوقية العليا في النظام الديمقراطي لا يمكنها أن تتفق مع وجود أية وثيقة فوق دستورية وحاكمة للدستور، ولكن هذا لا يعني عدم وجود مبادئ حاكمة للدساتير، فهذه الدساتير محكومة تماما بالمبادئ الديمقراطية، ولذا على كل من يتذرع بـ "القانونية" في التعامل مع المبادئ الحاكمة للدستور، أن يكون هو نفسه ملتزما من البداية بالمعايير الديمقراطية وألا يخالفها، ثم يحاول بعدها تغطية مخالفته بقناع ديمقراطي.

لكن ماذا عن التصويت؟ أفلا يمكن إعطاء الشرعية لقضية ما بناء على نتائج عملية تصويتية؟ وفي حالة الدستور، أفلا يمكن اعتبار دستور يقر موادا دينية أو قومية أو حزبية أو ذكورية مثلا شرعيا إذا ما صوت الناس لصالحه؟
ديمقراطيا هذه شرعية باطلة، ومثل هذه العملية في الديمقراطية لا تعتبر ديموقراطية، ولكنها تعتبر "أوخلوقراطية"(ochlocratic) أو "موبوقراطية"( (mobocraticأي "شعبوية" أو "ديماغوجية" لأنها تستغل اعتقادات وعواطف الناس، ولا تعتمد على وعيهم السياسي، فالانتخابات والاستفاءات والتصويتات والاستطلاعات وما شابه في الديمقراطية ليست عمليات مفتوحة بلا ضوابط وغير محكومة بأية أحكام، وهي مثل عملية صياغة الدستور تخضع لمبادئ الديمقراطية، ومن أهمهما مبدأ حماية حقوق الإنسان، الذي يتضمن المساواة التامة بين الناس، ومبدأ العقلانية الذي يعني اعتبار العقل هو المرجعية العليا في التشريع...
وهكذا لا يقبل أي تصويت على مسألة تخل بحقوق الإنسان أو بثوابت العقل مهما كانت نتائجه، وبالتالي فالتصويت مثلا على أي دستور يتضمن فقرات دينية أو ذكورية يعتبر باطلا لأنه بناء على باطل من الأساس، فالأمور الدينية في الفكر الديمقراطي الحديث تعتبر من ناحية ذات طبيعة فئوية كونها تخص جماعة دون سواها، ومن ناحية ثانية ذات طبيعة غير عقلانية كونها تتعامل مع الغيب والماوارئيات وتعتمد بشكل رئيس على الإيمان والاعتقاد، وبذلك لا تتوافق مع مبدئي المساواة بين الناس والعقلانية، أما الذكورية فهي أيضا ضد المساواة الإنسانية وهي تقاليد لاعقلانية، ما يجعلها حكما في موقع التناقض مع العقل والضمير الإنسانيين.

هذه الأمور يجب علينا كسوريين تعميق ثقافتنا بها على نطاق واسع، فنحن رغم كل مأساوية الأوضاع التي ما زال واقعنا خاضعا لها، نمر بمرحلة تغيير متعدد الصعد، والثقافة الدستورية هي جزء أساسي من الثقافة الديمقراطية التي يجب امتلاكها لتحقيق التغيير المطلوب إلى الأفضل، والمعرفة الدستورية في اللحظة الراهنة تضاف إلى أهميتها الدائمة أهمية لحظية ترتبط بوجود اللجنة الدستورية، فإن حققت هذه اللجنة شيئا إيجابيا، فسيكون علينا عندها التعامل مع ما حققته بالنقد البناء الهادف إلى التطوير، وإن لم تحقق، فسيبقى في هذه الحالة الاستحقاق الديمقراطي قائما ومقتضيا بشكل جوهري للثقافة الديمقراطية والمعرفة الدستورية.

 *
المقال منشور أيضا على مجلة "جيرون"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق