فهرس المحتويات

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

الانفصالية الكردية بين الحق والباطل

الانفصالية الكردية بين الحق والباطل

رسلان عامر



في الأيام الأخيرة وبالارتباط مع الهجوم التركي على شمال سوريا، المتذرع بخطر التنظيمات المسلحة الكردية الإرهابية، التي تهدد أمن تركيا، كثر الحديث على الساحة السورية في أوساط  كل من المعارضين والموالين عن "الانفصالية الكردية"، الساعية إلى إنشاء دولة كردية، وفي سياق ذلك الحديث الذي ما يزال مستمرا، علت وما زالت تعلو أصوت كثيرة تشمت بالأكراد وتتهمهم بالخيانة، وتتشفى بهم معتبرة أنهم جنوا على أنفسهم ووقعوا في شر أعمالهم.

وفي مقالنا هذا، سنحاول بشكل عقلاني هادئ تحليل مسألة "الانفصالية الكردية" هذه، والنظر في أسبابها وشرعيتها وواقعيتها وكيفية التعامل الصحيح معها.


1-الأسباب المحركة للمساعي الانفصالية:

بداية لابد من القول أن كل الأكراد هم أكراد على مستوى الهوية القومية، وهذا أمر طبيعي تماما، وهم فيه مثل سواهم من القوميات الأخرى، ولكنهم ليسوا جميعا "قوميين سياسيين" أو "مسيسين"، كما أن ليس كل القوميين السياسيين الأكراد انفصاليين، فالكثيرون بينهم واقعيون بما يكفي، ويكتفون إما بالدفاع عن حقوق الأكراد في المساواة التامة مع غيرهم من المواطنين في بلدانهم وعن ضرورة احترام هذه البلدان لحقوق الإنسان بشكل عام، أو يطالبون للأكراد بشكل من الحكم الذاتي أو الإدارة المحلية الذاتية بحيث تحترم فيها حقوقهم القومية والإنسانية، لكن مع ذلك فهذا لا يعني أن النزعة والحركة الانفصاليتين ضعيفتين وهامشيتين بين الأكراد، فقوتهما مؤثرة بشكل ملموس واضح، وتجاهلها هو خداع للذات بدلا من مواجهة المشكلة!
فما هي أسباب ذلك؟!

يمكن إرجاع أسباب وجود أو نمو النزعة الانفصالية عند أية "جماعة هويوية" (قومية، دين، طائفة، قبيلة، منطقة، الخ..) إلى عوامل ذاتية وعوامل موضوعية.
العوامل الذاتية ترتبط بالهوية، وهي الأساس الذي تقوم عليه الجماعة، وتتحدد به شخصيتها الاجتماعية، وهذا ما يترتب عليه مفاعيل، سواء على مستوى هوية الجماعة أو على مستوى شخصيتها كجماعة.
"الدولة القومية" هي أحد مفاعيل الهوية الحديثة، وهذه القضية تطورت بشكل رئيس في الغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر، ولعبت المصلحة البرجوازية في هذا دورا كبيرا، ومن أوروبا انتقلت إلى العالمين العربي والإسلامي وسواهما من مناطق العالم، فأنتجت لدينا الحركة القومية العربية الساعية إلى بناء الدولة العربية الموحدة، وأنتجت حركة قومية متطرفة في تركيا هي الطورانية، وامتدت إلى إيران، وإن كانت الخصوصية هناك تتمظهر في الإسلام الشيعي أكثر منها في القومية الإيرانية المباشرة، وبنفس الوقت انتشر الفكر القومي في صفوف الأكراد.
قبل قرن تقريبا تمكن القوميون العرب بثورتهم العربية الكبرى من إخراج العثمانيين مما تبقى تحت سلطانهم من مناطق عربية، وحاولوا إقامة دولة عربية موحدة، ومع أنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، فقد تمكنوا بدرجة ما من تنمية هوية عربية، وهم حتى اليوم يتعتزون بعروبتهم، وما زالوا يباركون "ثورتهم الكبرى" على العثمانيين، ويحلمون بوحدة عربية.
أما الإيرانيون والأتراك، فقد نجحوا أكثر في مشاريعهم القومية، وبنى كل منهم دولة موحدة قوية إقليميا.
وحدهم الأكراد لم يتمكنوا من تحقيق شيء قومي مميز قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وكانوا وما يزالون مجزئين بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، وهم غير معترف بهم كـ"قومية" فيها، باستثناء العراق الذي حدث فيه تغير فعلي بعد الغزو الأمريكي، والذي سبقه اعتراف رسمي بحكم ذاتي للأكراد في المرحلة السابقة بموجب اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970، التي لم يكن لها عمليا مفاعيل حقيقية على أرض الواقع.
وحتى اليوم ما يزال الأكراد يحاولون تحقيق دولة قومية كردية أسوة بجيرانهم!
وهذا ليس غريبا على مجتمع تقليدي، يتصف بشكل عام بحدته الهويوية، فموضوع الهوية ما يزال موضوعا حساسا حتى في المجتمعات المتقدمة، حيث نجد حتى اليوم مساع ذات طابع انفصالي في كل من اسكتلندة وكاتالونيا وكيبيك في دول مثل بريطانيا وإسبانيا وكندا، وكذلك في شرق أوروبا في المناطق الحدودية بين الروس والأوكران، هذا عدا عن الصراع الدامي الذي حدث بين الجماعات الهويوية في يوغسلافيا السابقة في أواخر القرن الماضي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
وما لا شك فيه أن الهوية ما زالت تلعب دورا كبيرا في المساعي الانفصالية المرتبطة بفكرة الدولة القومية، فهذه الفكرة ما تزال قوية الحضور في العالم المعاصر، ولاسيما في الثقافات التقليدية منه، حيث ما تزال الهوية الفئوية قوية وحادة وشديدة الوطأة، أما العالم الليبرالي المتقدم، فالدولة الحديثة فيه قطعت شوطا هاما في تجاوز الدولة القومية إلى الدولة الوطنية الإنسانية، ولكنها لم تتخلص كليا بعد من الإرث القومي.

أما العوامل الموضوعية المحركة للانفصال، فهي العوامل المرتبطة بالوضعين السياسي والاجتماعي ويمكن تصنيفها بدورها في ثلاثة أصناف:
1-وجود اضطهاد فئوي يقع على أقلية أو أقليات ما من قبل أغلبية أو من قبل دولة ذات صفة هويوية مختلفة، وهذا الاضطهاد يمكن أن يمتد من التهميش والانتقاص والإقصاء إلى الاعتداء المباشر والسعي إلى الإلغاء أو التذويب أو التهجير أو الإبادة.
وهنا يصبح الانفصال سبيلا للخلاص من هذا الاضطهاد.
2-وجود اضطهاد جماعي يقع على الجميع من قبل سلطة ديكتاتورية، ما يجعل بعض الفئات تفكر بخلاص خاص عبر الانفصال، وهذه النزعة تصبح أقوى كلما كانت فرص الخلاص الجماعي أقل، كمناصرة فئات أو جماعات أخرى للديكتاتورية لأسباب هويوية أو مصلحية، أو بسب عدم جاهزية الجماعات الأخرى لتحقيق الحل الجماعي المطلوب.
3- وجود وضع معيشي متدهور اقتصاديا بسبب الفساد وسوء الإدارة حتى في حال عدم وجود قمع سياسي أو اضطهاد أو تمييز هويويين، وهذه الحالة ينطبق عليها ما قيل عن الحالة التي سبقتها.
هذه العوامل قد توجد فرادى أو تتواجد معا، أو مع العامل الهويوي أيضا، فمن المكن مثلا أن يجمع نظام دكتاتوري بين الديكتاتورية العامة والتمييز العنصري، كما أن الدكتاتورية السياسية تكون عادة مترافقة بالاستغلال والفساد الذي يؤدي إلى تردي الاقتصاد، والتمييز الهويوي بدوره يولد عادة ردة فعل هوية مضادة تتمثل بالتعصب الهويوي، وبالمقابل أيضا يمكن أن تغدو النشاطات المرتبطة بهوية كالسعي للانفصال مثلا، أو التعصب الهويوي سببا لقمع أصحاب الهوية المعنيين.


 2-شرعية المساعي الانفصالية:

عندما نشرعن حقا سياسيا ما لجماعة أو مجموعة جماعات، فلا يجوز قطعا حجب هذا الحق عن غيرها من الجماعات، فإن كان يحق لجماعة ما أن تمتلك دولة قومية، فلا يحق لها منع  جماعة أخرى من السعي بدورها لامتلاك دولتها القومية هي الأخرى، ولا يحق لها إدانة أو تجريم أبناء هذه الجماعة إن هم سعوا بدورهم لتحقيق هذه الدولة حتى وإن تضاربت مصالحها مع مصالحهم.
فإن تعاملنا بمنطق مجرد مع الأمور، فسنسأل عندها لماذا يحق للعربي أو للتركي أو للإيراني أن يكون قوميا ويمتلك مشروعا ودولة قومية، فيما لا يحق للكردي ذلك؟ ولماذا يصبح الكردي خائنا وعنصريا وإرهابيا وعدوا للوطن إن هو حلم بدولة كردية وسعى لتحقيقها كما يفعل جيرانه؟!
منطقيا هذا الكردي لا يفعل هنا أي شيء لا يفعله العربي أو التركي أو الإيراني.
لكن هذا يحدث تناقضا بين التوجهات القومية، فالكردي من ناحية لديه كسواه نزعة قومية وحلم بدولة كردية خاصة، ولكنه يعيش في دول قومية مختلفة، ما يجعل العلاقة بينه وبين هذه الدول متوترة ومضطربة، ويعرضه في كثير من الأحيان للقمع.
عدا عن ذلك فهو يعاني بدوره مما يعانيه بقية السكان من عسف السلطات وصعوبات المعيشة، وإن اختلف هذا بين دولة وأخرى، وهذه المعاناة أيضا تجعله يحلم بدولته الخاصة التي لا تكون فيها مثل هذه المعاناة.
فهل يصنع هذا شرعية؟
بدرجة ما نعم ولكنها شرعية نسبية تماما، ولا ترتقي قطعا إلى مستوى الشرعية المطلقة.
قياسا على سواه، يصبح لدى الكردي الحق بدولة قومية مثل غيره، ولكن هذا الحق قياسي، وليس مبدئي، فالحقوق الهوية منطقيا لا تعطي الحق بإنشاء دولة على أساس الهوية، والدولة القائمة على أساس هوية قومية لا تختلف عن الدولة القائمة على أساس هوية دينية أو طائفية، ومثل هذه الدولة لا تتمتع بشرعية عقلانية ولا بشرعية إنسانية، فهي من ناحية تقوم على غريزة أو عاطفة الانتماء، وبذلك تتخارج مع العقل، كما أنها من ناحية ثانية تتخذ هوية فئوية خاصة وليس إنسانية عامة، وفي حال أنشأ الكردي دولة كردية، فهي لن تكون بدورها دولة بلا أقليات، وعندها ستجد تلك الأقليات نفسها في حالة تخارج هويوي مع الدولة الكردية القومية، كما يجد الكردي نفسه في هذا التخارج مع دولة عربية قومية.
هذا يعني أن الحق بالدولة القومية من وجهة نظر عقلانية إنسانية حديثة هو حق غير حقيقي، كما هو تماما الحق بالدولة الدينية، والدولة الإنسانية الحديثة يجب أن تكون مفصولة عن الدين والقومية بنفس الوقت والقدر.
بناء على ذلك تسقط وضعية المظلومية عن الكردي القومي الذي يتعرض لقمع داخل الدولة القومية التي يتواجد فيها بسبب نشاطه القومي السياسي، فهذا القمع يصبح هنا داخلا في نطاق النزاع بين الأطراف القومية المختلفة، وذات المصالح المختلفة.
فيما يعتبر أي عسف أو تمييز أو جور تبادر به أية دولة قومية على الأكراد عدوانا عنصريا عليهم بدون أدنى شك.
أما المعاناة المعيشية العامة التي يعانيها الكرد من التسلط والفساد وما يرتبط بهما من قمع وتدني في مستويات المعيشة في دول وجودهم، فهم فيها سواء مع سواهم.

لكن ماذا عن حق تقرير المصير المقرّ في القانون الدولي، والذي يعطي للشعوب أو للجماعات السكانية المحلية إمكانية تقرير شكل وطريقة تحقيق الحكم الذي يريدونه بشكل حر وبدون أي تدخل خارجي؟
هذا الحق لا يمكن تجاهله، ولكنه لكي لا يتحول إلى سبب في تفتيت وشرذمة البلدان، وإنتاج أعداد غفيرة من الدول الصغير التي تعقّد العلاقات وتعرقل المصالح الدولية، فهو في القانون الدولي محصور في حالتين، الأولى: هي حالة الشعوب المستعمـَرة أو المحتلة، حيث يعترف بموجب هذا الحق لهذه الشعوب بحق التخلص من الاحتلال الأجنبي وبأن تستقل وتحكم نفسها بنفسها؛ والثانية: هي حالة الأقليات التي تتعرض للاضطهاد أو التمييز العنصري الممنهج من قبل الدولة التي توجد فيها.
فهل ينطبق هذا على حالة الأكراد؟
واقعيا، رغم كل مساوئ وعورات الدول التي يتواجد فيها الأكراد، والتي تنتهك وتهدر فيها حقوق الإنسان بشكل كبير، فهم لا يتعرضون فيها لاضطهاد خاص مفرط، ولا يواجهون فعليا خطرا يهدد وجودهم أو هويتهم، أو يجابهون مساعي تذويب قومي أو إلغاء هوية فعلية، فوضع الكردي في سوريا مثلا لا يختلف تقريبا عن وضع الأرمني أو الشركسي فيها، وإن كان هناك بعض العسف الاستثنائي الإضافي ضده، فهذا مرتبط بالتخوف من وجود مساع قومية انفصالية لديه، ما يعني أن هذا العسف الخاص سببه التضاد القومي الموجود بين مساعي الأكراد القومية السياسية والدول القومية التي يتواجدون فيها، ويعني أن المشكلة بينهم وبين هذه الدول هي مشكلة خلاف وتناقض سياسات، وليست مشكلة رفض هوية أو وجود، ومع ذلك فهذه المشكلة، رغم خصوصياتها الكبيرة في كل دولة، فهي تبقى حادة وعويصة بشكل عام كونها مرتبطة بقضية انتماءات وهويات فئوية متصلبة، ولكن عند هذه النقطة، أي القمع الذي يتعرض له الأكراد بسبب المساعي الانفصالية، تصبح مساعي إقامة دولة كردية هي سبب المشكلة، ولا تكون الدولة الكردية هي الحل والخلاص.
أما على مستوى المعاناة المعيشية، فلا يكون الحل بالدولة القومية الكردية، بل بالدولة الوطنية الديمقراطية.
وبناء على ذلك نصل إلى نتيجة عدم وجود أية شرعية قانونية أو منطقية أو أخلاقية كافية لإقامة دولة كردية، وكل المبررات التي يمكن تقديمها من أجل ذلك، لا يعود لها ثقل عند وضعها بمواجه البديل الوطني الديمقراطي.


3-واقعية الحل الانفصالي:

المبرر الوحيد الذي يمكن أن يكون مقبولا لحل انفصالي، هو استعصاء الحلول الأخرى لمشكلة خطيرة لا يبقى لحلها سوى الانفصال.
فما هي المشكلة الملحّة التي يمكن فقط للانفصال الكردي أن يحلها؟!
إن الأكراد، وإن كانت لديهم معاناتهم الخاصة بدرجة ما، فهم مع ذلك ليسوا في خطر حقيقي يتهدد مصيرهم كجماعة في أية دولة من دول تواجدهم، هذا على المستوى الخاص.
أما على المستوى العام فهم لا يختلفون عن غيرهم من الجماعات في المعاناة العامة أو في القدرة والقابلية للحل العام.
هذا من ناحية خصوصية الوضع الكردي على مستوى الوجود كأقليات في دول التواجد.
أما من الناحية العملية، فوجود الأكراد القديم مع غيرهم من شعوب المنطقة أنتج درجة كبيرة من التداخل الديموغرافي والتفاعل الاجتماعي، فقد انتشر الأكراد وانتشر سواهم واختلطوا، بل واندمجوا بدرجات ما، وهكذا فلم يبق الأكراد فقط في ما يسمونه كردستان، التي أصبحت هي نفسها أيضا منطقة ذات تنوع قومي، وإن غلبت فيها نسبة الأكراد.
هذا العامل الموضوعي إذا ما أضيف إليه عامل حدة الهوية والعصبية القومية الموجودة عند الجميع، يصبح عندها السعي لأي انفصال محركا لنزاعات قومية عنيفة، وهذا ما وقع فعلا في شمال سورية مثلا، وإن لم يكن على نطاق واسع، وبشكل قومي مباشر.
لذلك لن يجلب السعي لإقامة دولة كردستان" الخير لا للأكراد ولا لسواهم، بل سيجلب الأذى الفادح للجميع.
وفي هذا لن يكون ثمة من هو بريء ومن هو مذنب بل سيكون الجميع مذنبين وجناة وضحايا بنفس الوقت والقدر.

إن أية مشكلة قومية يعاني منها الأكراد أو سواهم، أو أية مشكلة هويوية أخرى، لا يكون حلها لا بدولة قومية ولا بانفصال، فالحل لكل هذه المشاكل هو في الدولة الوطنية الإنسانية الديمقراطية فقط.
والسياسات القومية، تكون عادة مرتبطة بعصبيات الهوية وفئوية المصالح، ولا مفر من تضاربها وتناقضها وصراعها في مجمل الأحيان، أما السياسات الوطنية الإنسانية، فهي تجعل الأوطان المختلفة أجزاء من وطن واحد تلتقي وتتوافق فيه، وهذا الأمر ليس حلما طوباويا، فالاتحاد الأوروبي الناشئ هو مثلا خطوة كبيرة على هذا الطريق!


4-ما هو الأسلوب الصحيح للتعامل مع الانفصالية؟

التعامل مع هذه المشكلة يشبه في جزء منه التعامل مع غيرها من المشاكل، فالحل الجذري لمواجهة أية مشكلة يقتضي معرفة أسبابها، ومواجهتها على مستوى هذه الأسباب، أما قصر الحل على المواجهة على مستوى الأعراض والنتائج، فهو يكون إما حلا آنيا، أو حلا مرتفع الكلفة، أو حلا هو نفسه سيء العواقب، أو لا يكون حلا بقدر ما يكون زيادة تأزم للمشكلة.
فإذا نظرنا إلى أسباب النزعة الانفصالية الموجودة عند الانفصاليين الأكراد، فيمكننا القول أنها كلها قابلة للزوال في نظام وطني ديمقراطي.
وقبل توضيح هذا الطرح، لا بد من التطرق إلى قضية جد حساسة لا تنفصل عنه، فأي حل حقيقي لا يمكن أن يتم بوجود نظرة ترى في الانفصالي الكردي خائنا وعميلا لعدو أجنبي أو عدوا للوطن، وما شابه!
الانفصالي الكردي هو قومي كردي سياسي، وهو لا يختلف عن أي قومي عربي بتاتا، ومثله في قوميته مثل البعثي والناصري والقومي السوري، وهو صاحب هوية كردية مثلما هم أصحاب هوية عربية أو سورية، ولديه أحلامه وأهدافه المرتبطة بهويته الكردية والمتمثلة بدولة كردية، كما لدى العربي أحلام وأهداف عربية ترتبط بالدولة العربية الواحدة، ولدى القومي السوري مثلها ولكن بشكل يرتبط بوحدة الهلال الخصيب.
فهل يخون هذا الكردي وطنا؟
هو قطعا لا يفعل ذلك!
بل على العكس من ذلك، هو يسعى إلى وطن، وطن يتناسب مع وضعه الهويوي كقومي كردي!
أما الوطن ذو الهوية العربية، الذي يتحدث العربي عن خيانته هنا، فهو في هويته القومية العربية لا يمثل ووطنا للقومي الكردي ذي الهوية القومية الكردية، فبين هذا الكردي وبين هذا الوطن القومي يوجد تناقض في الهويات، ولذلك يبحث هذا الكردي عن وطن هويوي قومي بديل!
إذا ما هو الحل؟
هنا نعود إلى ما سبق قوله عن الديمقراطية الوطنية الإنسانية، والتي تعني عمليا عملية دمقرطة وطنية إنسانية ترفع من ناحية الثقافة الوطنية الإنسانية، وتنبني من ناحية ثانية بالتزامن والترابط الجدلي معها الدولة الوطنية الديمقراطية.
في ثقافة وطنية إنسانية، لا تعود الهوية القومية هي العليا عند الإنسان، الذي تصبح هويته الإنسانية كإنسان عاقل هي العليا، وبالترابط مع ذلك يصبح ارتباطه بالدولة الوطنية وانتماؤه لها هو الأقوى، لأنها عمليا تشكل المنظومة الاجتماعية الإنسانية التي تتحقق فهيا إنسانية هذا الإنسان، وتصبح حقوقه الإنسانية واقعا حيا معاشا!
وبنفس الوقت الذي تتأنسن وتتعقلن فيه الهوية في الديمقراطية، يزول أيضا أي عسف أو جور أو تمييز هويوي، وتحترم بشكل متساو وكاف كل الهويات، ويزول كل اضطهاد سياسي أو اجتماعي، وبذلك تزول العصبية الهويوية على مستوييها كفعل وكرد فعل.
وللديمقراطية أيضا تأثير جوهري على المستوى المعيشي، فالدولة الديمقراطية الحقيقية، هي فعليا دولة شعبها ومجتمعها، وتعمل من أجل مصلحتهما، وهي دولة كفوءة ومبنية على أسس عقلانية علمية وتعتمد على الكفاءات، كما أنها دولة قانون وسلام، وبذلك تحمي نفسها ومجتمعها من الفساد والنزاع بأشكالهما المختلفة، وتوفر للاقتصاد إمكانية أن يتطور، ولمستوى المعيشة إمكانية أن يرتفع!
وإضافة إلى ذلك، وهذه مسألة في منتهى الأهمية، فالدولة الديمقراطية، لا تكون وحدها من يعمل، ولكنها تمكّن المجتمع من أن يعمل بكل طاقاته بقيادتها وتنظيمها وإشرافها، وبذلك يتحول المجتمع نفسه إلى فاعل أساسي في حل مشاكله وتطوير نفسه، فوجود تنظيمات سياسية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات ثقافية مستقلة فاعلة مثلا يوفر إمكانيات كبيرة للتفاعل الاجتماعي بين الجماعات الفئوية المختلفة، ولتطوير أعمال وروابط مشتركة وتنمية ثقافة جامعة موحدة حديثة، تخرج الناس من معتزلاتهم وقواقعهم الفئوية إلى فضاءات الإنسانية والعقل والحداثة، وشيء مماثل يمكن للتجمعات العمالية الكبيرة في اقتصاد متطور أن تفعله.

وعلى العكس من ذلك تكون عادة الدولة الديكتاتورية، التي لا يهمها إلا مصلحتها، فتهمين على السلطة وعلى الاقتصاد، وتقمع المجتمع وتكبل نشاطه وتسخّره لخدمتها، وتحاصر الثقافة، بل وتتلاعب إن اقتضى الأمر بالحالة الهويوية وتستغلها، وفي المحصلة لا تنمو هوية وطنية، بل تتكرس وتترسخ حالة الانفصال المجتمعي، وتزداد حدة الهويات الفئوية، ويستشري الفساد، ويتردى الاقتصاد، وتتدنى مستويات المعرفة والعلم، وترتفع درجات الإحساس بالغبن والتوتر والنقمة، وفي هذه الظروف، تصبح الفرصة متاحة بقدرها الأكبر للمتطرفين الدينيين أو القوميين أو للمغرضين الطامعين لينشطوا، ويستدرجوا الناس بأحلام خلاص أو أصنام معنى وهمية، ويستقطبوا عبرها المغبونين المتوترين المتدني الثقافة، ويدفعوهم في سبل تخدم أغراضهم.

 بناء الدولة الوطنية الديمقراطية هو الحل الحقيقي لأية مشكلة انفصالية، ومن يريد لهذه المشكلة حلا حقيقيا عليه أن يلتزم بكل لوازم وضرروات الحل، ما يعني أن العربي الذي لا يريد لوطنه أن يتجزأ، عليه بدلا من شيطنة الكردي الانفصالي أن يفهم أن هذا الكردي هو مثله تماما على مستوى الهوية، ولذلك فالعربي الذي يتعصب لعروبته ويصر على عروبة وطنه، هو، عندما تعتبر الانفصالية خيانة، شريك للكردي الانفصالي في خيانة هذا الوطن، الذي يريده هذا العربي عربيا، ولا يمكن للكردي أن يقبله عربيا، وهذا من حقه.
هذا العربي إذا أراد وحدة الوطن، فعليه أن يعي أن هذا الوطن يجب أن يكون وطن الجميع، وليس وطن العربي وحده، ولذا عليه أن يفصل هويته العربية الخاصة عن هذا الوطن، وأن يشجع الكردي وغيره ويحثهم على فعل المثل، كما عليه أن يسعى معهم لبناء الوطن الإنساني الحقيقي، الذي يحسون فيه بأنه وطنهم الذي تتحقق وتتطور فيه إنسانيتهم ويحيون فيه حياتهم الإنسانية الرفيعة الحقيقية بكل أبعادها.
وهذا يعني أن حل مشكلة الانفصالية هو جزء من الحل العام المتمثل في تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية، وأنها كمشكلة ليست إلا جزءا من مشكلة التخلف والتردي الشاملة العامة، التي لا يمكن فيها أن تنجح نجاحا فعليا أية حلول جزئية في أي مجال من المجالات بدون حل شامل.
*
‏16‏/10‏/2019
*
المقال منشور على مجلة "جيرون"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق