فهرس المحتويات

السبت، 2 ديسمبر 2023

مشروع الدولة المدنيّة في سورية من منظور نقدي

 مشروع الدولة المدنيّة في سورية من منظور نقدي

رسلان عامر

 

 


مع انطلاقة الربيع العربي وما أحدثه من تغيرات مؤثرة على مختلف صعد الساحة العربية، صار مصطلح "الدولة المدنية" واحدا من المصطلحات التي يكثر الحديث عنها إلى جانب مصطلحات "الدولة الديمقراطية" و"الدولة العلمانية" و"الدولة الإسلامية" في سياق الطروحات المطروحة للحل السياسي المنشود لبناء الدولة العربية الحديثة، فما معنى ومدلول هذا المصطلح، وما مدى واقعيته كمشروع  في إطار السعي إلى حل للمستقبل السوري؟ ولاسيما أن حركة التغيير السورية أو الربيع السوري هو رغم كل خصوصياته جزء من الربيع العربي ويشترك معه بالقواسم السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية العامة؟

 

1-ماذا تعني "الدولة المدنية"؟

ليس هناك مفهوم موحد مجمع عليه لمصطلح الدولة المدنية، والمفاهيم تتعدد وفقا للمرجعية أو العقيدة أو الفلسفة أو الغاية التي  يتبعها أو ينتمي إليها كل صاحب مفهوم، ما يؤدي بالتالي إلى ضبابية وعدم وضوح المفهوم، واختلاف بل وتناقض دلالته، وهذا المصطلح برأي العديد من الباحثين العرب هو "مصلح عربي حديث"، وهو لا يستخدم في العلوم الإنسانية أو الفلسفات السياسية الغربية، وقد تم طرحه عربيا لتجاوز الخلافات بين المحافظين والمحدُّثين وبين العلمانيين والإسلاميين العرب، وبذلك يصبح حلا وسطيا بين الأطراف المختلفة، وبديلا عن كل من "الدولة العلمانية" و"الدولة الدينية" معا.

مع ذلك فقد انعكست الخلافات القائمة على "المصطلح نفسه" وتعددت بل وتضاربت مفاهيمه، إلى درجة جعلته أكثر التباسا من سواه من المصطلحات الأخرى.

وبهذا الشأن يقول الباحث المغربي في الفلسفة والفكر المعاصر فؤاد هراجة: «يعد مصطلح "الدولة المدنية" مصطلحا طارئا على حقل العلوم والفلسفة السياسيين. وهو مصطلح لا تجد له أي أثر أو وجود في العلوم السياسية الغربية قديمها وحديثها ومعاصرها. ولعل هذه المعلومة قد تشكل أول صدمة في مستهل هذا الموضوع؛ فمصطلح "الدولة المدنية" هو اختراع عربي مُحْدَث وُلِدَ في خضمّ السجال اللائيكي/الإسلامي حول طبيعة الدولة المراد تأسيسها بعد مرحلة التغيير التي يبشر بها كل طرف...»([1]).

 وإذا ما تأملنا في الآراء المطروحة على الساحة العربية بخصوص مصطلح "الدولة المدنية"، فيمكننا القول أنه يمكن تصنيفها في أربع أصناف، وهي:

1- "الدولة المدنية هي الدولة الإسلامية الصحية"، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الحاكم في الشريعة الإسلامية يتم يختاره من قبل الأمة، وهو مسؤول أمامها، وهي تستطيع محاسبته وعزله إن اقتضى الأمر، وبذلك يختلف نظام الحكم الإسلامي عن النمط الغربي الثيوقراطي، الذي كان يحكم فيه الكهنة بموجب"حق سماوي" لا يسألون فيه ولا يساءلون ولا يحاسبون، وبذلك يكون لديهم سلطة مطلقة بدون أي رقيب أو حسيب، وبما أن نظام الحكم في الإسلام ليس فيه "كهنة" ولا "حق سماوي"، والحاكم فيه يعتبر مكلفا من قبل الأمة وخادما لها، يرى بعض الفقهاء والمفكرين أن نظام الحكم في الإسلام هو "مدني"، وليس ديني بمعنى "ثيوقراطي"، ومن هؤلاء المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، حيث يقول: «الدولة الإسلامية دولة مدنيَّة تقوم على المؤسسات، والشورى هي آلية اتخاذ القرارات في جميع مؤسساتها، والأمة فيها هي مصدر السلطات شريطةَ ألَّا تُحِلَّ حراما، أو تحرِّمَ حلالا، جاءت بِه النصوص الدينيَّة قطعيَّة الدلالة والثبوت، هي دولة مدنيَّة؛ لأنَّ النظم والمؤسسات والآليات فيها تصنعها الأمة....إلخ»([2]).

2- "الدولة المدنية هي دولة ديمقراطية حديثة ذات مرجعية إسلامية"، والمرجعية الإسلامية هنا لا تعني تطبيق الشريعة وحدودها بشكل حرفي، ولكنها تلزم رسميا بسن قوانين الدولة بشكل لا تتعارض فيه مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا يعني أن الدولة المدنية التي تعاقب السارق بالسجن ولا تقطع يده، تكون بذلك قد حققت مقصد الشريعة الإسلامية المتمثل بمكافحة السرقة، ومثل هذا الموقف نجده في رأي الشيخ عبدالله اليوسف الذي يقول: «الدولة المدنية كتعبير حديث عن عصرنة الدولة وتحديثها بما يتلاءم مع التغيرات الجديدة،لا تتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية، مادامت الدولة مرجعيتها الإسلام، أو هكذا يجب أن تكون في البلاد الإسلامية، فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام الكلية فلا يوجد ما يمنع من تطوير الدولة والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنجز إنساني يجب استثماره لصالح تقدمنا وتطورنا»([3]).

3-"الدولة المدنية هي دولة ديمقراطية حديثة ذات خصوصية عربية إسلامية"، وهذا يعني أنها ديمقراطيا كسواها من الدول الديمقراطية في العالم، ولكنها في منطقتنا العربية تراعي الخصوصية الدينية والثقافية لمجتمعاتنا العربية، وتسن قوانينها بما يتناسب مع هذه الخصوصية، ولا تقلد أو تستورد التجارب الأجنبية، وعن هذا يقول المختص في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية حسني الخطيب: «فكرة الدولة المدنية، سواء ورَدَ هذا المصطلح أو لم يرد في أدبيات العلوم السياسية، لم يظهر على الساحة  إلا في وقت متأخر، وخصوصا خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العالم العربي، ولاسيما بعد موجة ما سُمّي بالربيع العربي، لذلك فإن هذا المصطلح أثار ويثير مثل هذا التجاذُب والتعارض والأخذ والرّد، وذلك لأنه لم يتم تكييفه أو توطينه بعد في دولنا ومجتمعاتنا العربية، بما يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية لمنطقتنا»([4]).

4- "الدولة المدنية الحقيقية هي ”دولة علمانية“"، وكأية دولة مماثلة يتم فيها بشكل صريح الفصل التام بين الدولة والدين، وهذا الرأي يتبناه الدكتور جابر عصفور الذي يقول في مقالة منشورة له مؤخرا بعنوان" الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة": «ينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن مصطلح مدنية فى هذا العنوان لا يختلف كثيرا عن مصطلح علمانية، فكلاهما يتحدان فى الدائرة الدلالية التى تشير إلى معنى واحد، هو فصل الدين عن الدولة، وتأكيد حقوق المواطنة لجميع المواطنين بالمساواة الكاملة بينهم بغض النظر عن عقائدهم أو مكاناتهم الاجتماعية أو أصولهم العِرقية... حقيقةُ معنى الدولة المدنية تظل هى الفاصل الحاسم بين الدين والدولة... والصفة الديمقراطية تعنى فى جانبها المدنى، إلغاء أية سُلطة سوى سُلطة القانون أو الدستور، ومن ثم فإن ادعاء البعض بأن الأزهر أو الكنيسة بأنه سُلطة دينية موازية لسُلطة الدولة إنما هو ادعاء باطل..»([5]).

 

2-إلى ماذا سيقودنا كل هذا الاختلاف؟

كما نرى في ما تم عرضه، تحولَ مصطلحُ "الدولة المدنية"، الذي كان يفترض به أن يغدو المخرج من حالة التجاذب والخصام بين القوى السياسية المختلفة، إلى قالب يعاد من خلاله طرح مضامين هذه الخلافات نفسها، ما يعني أننا أصبحنا أمام "دول مدنية متعددة" وليس أمام "دولة مدنية واحدة محددة".

وهذه الخلافات هي خلافات كبيرة، وتنشأ عنها مفاعيل ليس شديدة التباين وحسب.. بل ومتناقضة في أحيان كثيرة مرتبطة بكيفية التعامل مع قضايا كبيرة ومعقدة.

لنأخذ مشكلة المرأة مثلا..

 إن دولة مدنية إسلامية مفترضة، وإسلامية هذه الدولة واقعيا ستبقى رهنا بالقوى الإسلامية القادرة على فرض سلطتها في هذه الدولة، وتحديد شكل المدنية في حدود فهمها الخاص لكل من الإسلام والمدنية، ستبقى -أي هذه الدولة المدنية الإسلامية- تتعامل مع قضية المرأة في إطار نفس الثوابت التقليدية الراسخة التي لا تساوي بينها وبين الرجل، مثل الزواج والطلاق والميراث والشهادة القضائية وغيرها، والكثير من الإسلاميين أنفسهم يعلنون بصراحة رفضهم الحازم لفكرة المساواة بين الجنسين، ويستبدلون "مبدأ المساواة" بـ "مبدأ العدل"، الذي يعني من وجهة نظرهم معاملة كل من الرجل والمرأة وفق ما تقتضيه طبيعتاهما المختلفتين، وهكذا فـ"منع تعدد الزوجات" -مثلا-سيعتبر"تحريما لمحلل" والمساواة في الميراث ستعتبر "تحليلا لمحرم"، ولن تأخذ مثل هذه القضايا الإشكالية سبيلها إلى التغيير والحل.

في دولة تجمع في بنيتها بين الدين والسياسة لن تكون هناك ضمانات ولا حتى إمكانيات كافية لحل العديد من المشاكل، ولاسيما أن معظم القوى الإسلامية الموجودة على الساحة العربية هي واقعيا من النوع المتشدد أو المتطرف، وهي ما تزال تتعامل مع المرأة بذهنية تقليدية سلفية، كما أنها إما لا تعترف بالآخر، أو لا تقبل التساوي معه، وهكذا دواليك...

سؤال "مشكلة المرأة" هذا يمكن أن يواجهنا أيضا حتى في حالة "الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية".. فسواء استخدمت الشريعة قانونا أو مرجعا ستبقى المواقف كما هي، وسترفض هذه المرجعية القوانين المدنية الموضوعة لحل هذه المشكلة إن كانت تتعارض معها كـ "مرجعية شرعية".

هذا الموضوع يصبح التعامل معه مختلفا في حالة "الدولة المدنية ذات الخصوصية العربية"، فالخصوصية هي مسألة اعتبارية.. وليس لها صفة قانونية ملزمة كالمرجعية، وبالتالي لا تكون هذه الدولة ملزَمة قانونيا بعدم سن قوانين لا تتفق مع الشريعة، ويبقى الأمر اعتباريا.. بل وبراغماتيا، مثل هذه الدولة يمكنها أن تسن قانونا كمنع تعدد الزوجات أو المساواة في الميراث في الظروف الواقعية المناسبة، ولكنها مثلا لن تسن في مجتمع محافظ قانونا يسمح بـ "المساكنة"، وهنا يتجلى احترام الخصوصية الثقافية والدينية.

وبالنسبة للدولة المدنية كدولة علمانية، تكون الصورة أكثر وضوحا والمواقف أكثر حزما، ولكن حتى دولة علمانية حازمة لن تضرب عرض الحائط بثقافة وتقاليد شعبها، فتستورد قوانين أجنبية تتناقض مع هذه الثقافة والتقاليد، فالعلمانية لا تفعل هذا بتاتا، لأنها تقوم على العقلانية الواقعية، وبالتالي يمكن القول أن دولة مدنية علمانية لن يكون لديها مشكلة بتاتا في سن قانون يعتمد مبدأ "الزواج المدني"، ولكنها أيضا في مجتمع محافظ لن تفكر بقانون يسمح بـ"زواج المثليين".

هذه الاختلافات الكبيرة التي يمكن أن تنشأ وفقا لمفهوم "الدولة المدنية" المعتمد، يمكنها أن تضعنا في حالة حيرة كبيرة بشأن النموذج المدني المطلوب في سورية، وللخروج من هذا المشكلة يمكننا أن نعود إلى التاريخ السوري بحثا عن حلها، وقبل ذلك يتوجب علينا أيضا أن نجيب عن ضرورة طرح "خيار الدولة المدنية"، ولماذا لا يتم بدلا عن ذلك طرح المشروع العلماني بشكل واضح وحازم، وبذلك نتجنب ملابسات أطروحة "الدولة المدنية؟

 

3- ما هي ضرورة طرح مشروع "الدولة المدنية":

إن الجواب عن السؤال عن سبب التوجه إلى دولة مدنية، وليس إلى دولة علمانية بشكل مباشر، يتمثل على الساحة السورية -والساحة العربية أيضا- بعدم وجود القوى العلمانية المهيأة لتطبيق العلمانية الصحيحة من ناحية، وبوجود القوى الإسلامية القادرة على إفشال هذا المشروع.. عند طرحه كمشروع يتجاهل وجودها ومواقفها من ناحية ثانية، وهذا يعيدنا من منطلق واقعي إلى مقولة "الحل التوافقي"، عدا عن ذلك فمن الضروري جدا التأكيد على المفهوم الصحيح للعلمانية المطلوبة مبدئيا للحل في سوريا، فكثير من مدعي العلمانية في سورية وغيرها من الدول العربية.. دفعتهم علمانيتهم المزعومة إلى تأييد ودعم الديكتاتوريات الحاكمة، التي تدّعي هي بدورها العلمانية أحيانا، وذريعة أولئك العلمانيين المزعومين هي ضرب "القوى الظلامية" المتمثلة بـ"الحركات الإسلامية"، ما جعل مثل هذه العلمانية تغدو غطاء وتبريرا للقمع والعنف، وبهذا الشأن يقول د. برهان غليون: «تقف العلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية»([6]).

إذا يمكن الجواب ببساطة وواقعية عن ضرورة طرح مشروع "الدولة المدنية" وليس "الدولة العلماينة" سوريا بأن هذا عائد إلى أنه على أرض الواقع ثمة حقيقيتان لا يمكن إنكارهما أو تجاهلهما، وهما أن القوى الإسلامية لها حضور كبير، وهذا لا يقتصر على تنظيمات وحركات الإسلام السياسي، بل يضمن أيضا المؤسسات الدينية التقليدية والنشاطات الدعوية والإعلامية وغيرها من الفعاليات، وفي مقابل ذلك نجد حضورا ضعيفا للقوى للعلماينة، وحضورا أفضل نسبيا للقوى الوسطية التي لا يمكن تصنيفها كقوى إسلامية أو قوى علمانية، ويدخل في عدادها مثقفون وسياسيون وتكنوقراطيون واقتصاديون ومتدينون عفويون غير مسيسين أو متشددين وهلم جرى، وهذا ما يجعل "الدولة المدنية" هي الطرح الأنسب في المرحلة الراهنة، وهذا كله بالطبع يرتبط بنجاح عملية الخلاص من الديكتاتورية أولا، وهذا المهمة لم تنجز بعد.

إذا، وبعد كل ما تقدم، ما هي الدولة المدنية المطلوبة والممكنة في سوريا؟

 

4-الدولة المدنية في سوريا.. هل هي الحل؟

إذا ما تأملنا في التاريخ السوري الحديث، يمكننا بدون أي تعقيد أن نجزم أن التجربة السورية الديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستقلال.. والتي انتهت باستيلاء البعث على السلطة عام 1963، كانت رغم كل عيوبها وعثراتها تجسيدا فعليا لفكرة "الدولة المدنية"، بمفهومها كدولة ديمقراطية متوافقة مع الإسلام، فالدولة في تلك الحقبة امتلكت الكثير من سمات الدولة الحديثة ومن عوامل الديمقراطية، ومن ذلك مثلا: تداول السلطة الفعلي، والانتخابات الحقيقية، وفصل السلطات، والتعددية السياسية، واستقلال الإعلام، وحرية العمل السياسي والثقافي والإعلامي؛ والدولة التي تمكنت في خمسينيات القرن الماضي -مثلا- من الجمع ديمقراطيا بين الليبرالي والقومي والشيوعي والإخواني وسواهم تحت قبة برلمان واحد، ولم يحصل فيها الإخوان المسلمون إلا على أقل من 3% من مقاعد البرلمان (4 من 140) في انتخابات عام 1954، لا يمكن وصفها إلا بأنها "ديمقراطية" و"مدنية".

فهل يمكن النجاح في تجربة مماثلة في المستقبل المنظور؟

بهذا الشأن تقول الكاتبة السورية سحر حويجة والمحامية والسجينة السياسية السابقة أن "أغلب تيارات ”الإسلام السياسي“ اتخذت موقفا مغايراً، رأت فيه أنالأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها وتتفق معها. في المقابل نجد عدداً من القوى والشخصيات العلمانية في سوريا، تبتعد عن العلمانية، بل تتخلى عنها لصالح الدولة المدنية، منهم برهان غليون وحسن عبد العظيم المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية الذي يعلن أنه مع الدولة المدنية بوصفها دولة المدينة وصحيفة المدينة، وهي التي أنشأها النبي العربي منذ 14 قرناً، ويبرر استخدامه لمصطلح المدنية كون العلمانية لها حساسية في القواعد الشعبية. من بين المتراجعين أيضاً، المعارض حازم نهار، الذي كان يقول إن سر نجاح أي ثورة هو منطقها العلماني، لكنه حالياً يسوق للدولة المدنية على اعتبار أن الشارع يملك حساسية تجاه كلمة العلمانية. وأيضاً رئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين الذي يعتبر الاستبدال هو في المصطلح فقط وليس المضمون".

 والسيدة سحر تعتمد في كلامها على تقرير لوسام العبدالله بعنوان "العلمانية في سوريا بين المجتمع والسلطة " نشر في موقع "اليوم الثالث" بتاريخ 27/8/2017([7]).

وبدورها تتبنى حسيبة عبد الرحمن، الكاتبة والناشطة السورية التي أمضت ثماني سنوات في السجن، مما يحدث موقفا سلبيا يشاركها إياه كثيرون على الساحة السورية، فتقول في مقال لها في  22 تشرين الأول 2019: «حمل الانفجار الجماهيري الكبير (2011) احتماليات مستقبلية كبيرة من مشاريع وبرامج جذرية لمسارات ديموقراطية وعلمانية (ونفث أيضا بواطنه المتخلفة)، ولكن للأسف كانت قواه الفاعلة والمحركة، سياسيا وشعبيا، من الإسلام السياسي التقليدي بتلاوينه المتعددة، لأن اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، ولذا لم يُطرح أي مشروع نهضوي، واقتصر حقل  الصراع على السلطة (وأهمية صندوق الانتخاب)، وترافق ذلك مع تنظير بعض النخب العلمانية لمصطلح الدولة المدنية بدل العلمانية، كخطوة تراجعية عما طرح طوال العقود المنصرمة. وفي هذا الإطار، يأتي تخلي برهان غليون في مقابلته التلفزيونية مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي) عن الدولة العلمانية بما تمثل، إلى الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين وغيره الكثير. وهذا التراجع هدف إلى  تسويق مفهوم الدولة المدنية تمهيداً للحكم الإسلامي على النموذج التركي، وبرروا ذلك بأنه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون»([8]).

إذا هل ما يطرح على الساحة الراهنة من توجه باتجاه "الدولة المدنية" يأتي في إطار "صفقة سياسية مشبوهة" أم هو فعلا توافق براغماتي سياسي واقعي؟

هذا الأمر لا يمكن إعطاء جواب له بدون النظر إلى الواقع السوري بواقعية، فإن كانت السيدة حسيبة عبد الرحمن نفسها تعترف بأنه في الواقع السوري اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، وتتأسف لكون القوى الفاعلة هي "الإسلام السياسي"، فمن هي إذاً القوى التي ستحقق "المشروع العلماني"؟ أو هل سيتحقق بدون قوى؟!

في مثل هذه الظروف.. من الواقعية والعقلانية الحديث عن مشروع ديمقراطي مشابه لدولة ما بعد الاستقلال الديمقراطية رغم كل عيوبها وعثراتها، وإلا سيكون على القوى العلمانية الضعيفة، التي لا تسطيع أن تكون قطبا حاسما بنفسها أن تبحث عن بديل ديكتاتوري بسبب رهابها من القوى الإسلامية، أو تبقى خارج أي حل واقعي تنظّر في نرجسية عن مشروع علماني لا تستطيع تحقيقه.

في هذا السياق وإضافة إلى الاستفادة العقلانية من تجربة الخمسينيات السورية، يجدر بنا الاستفادة أيضا من تجربتي مصر وتونس الحديثتين، وهذا الكلام موجه لكل من العلمانيين والإسلاميين وغيرهم من القوى، فعنت الإسلاميين في مصر وسعيهم الأناني للتفرد بالحكم.. دفع بالعلمانيين وغيرهم من القوى المتضررة والمتخوفة إلى "معسكر النظام السابق" وأدى إلى "الثورة المضادة" في المحصلة، وعودة "حكم العسكر" ومعه "الاستبداد والفساد"، أما التفاهم في تونس.. فقد حمى الثورة التونسية من النكسة، وفي ما يتعلق بتونس يجدر التنويه إلى أن توطئة الدستور التونسي تقول أن أحد أسس رسم الدستور هي أنه يأتي "تعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال، وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية، واستلهاما من رصيدنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا، ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقوّمات هويتنا العربية الإسلامية وإلى الكسب الحضاري الإنساني..."، كما يقول الفصل الأول من الباب الأول منه "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، ويقول الفصل السادس من نفس الباب "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها" ([9]).

وكما نرى فالدستور التونسي يتضمن فقرات ذات طابع إسلامي كالحديث عن دين الدولة ورعاية الدولة للدين، وهذا لا يتفق مع العلمانية، ولكن بنفس الوقت تكفل الدولة حرية الضمير وتلتزم بعدم تحزيب المساجد ودور العبادة ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية وما شابه من القيم الإنسانية العصرية، ما يعني بالتالي أنه من الأوجب القول بأن تونس هي "دولة مدنية" وليست "علمانية".

 

5- نظرة ناقدة على مشروع "الدولة المدنية" في سوريا:

بالطبع الحديث عن تجربة ما بعد الاستقلال في سوريا وعن التجربة التونسية الراهنة.. وعن إمكانية الاستفادة منهما، لا يعني قابليتهما للتكرار أو التقليد في سوريا الراهنة، لأنه هناك اختلافات جذرية في الظروف، فسوريا حتى الآن لم تتخلص بعد من الديكتاتورية، وقد تسبب الصراع العنيف فيها بخسائر بشرية ومعنوية ومادية هائلة، وهي اليوم مشرذمة بالمعاني الاجتماعية والسياسية والجيوسياسية، واقتصادها منهار، والفساد فيها مستفحل، وعلى أرضها العديد من القوى الأجنبية، والتدخلات الأجنبية فيها تصل إلى أقصى الحدود، وهي تفتقر إلى رافعة وطنية حقيقية، وكل هذا لم يكن موجودا فيها في مرحلة ما بعد الاستقلال، وليس موجودا في تونس اليوم.

مع ذلك تبقى ضرورة البحث عن حل ذات أهمية قصوى، والحديث اليوم عن مشروع "دولة مدنية" لا يعني "نهاية اللعبة".. بل يعني فقط في حال التوافق عليه انتهاء جزء من المرحلة التمهيدية في عملية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وهذا يعني استمرار العمل على تطوير هذه الدولة إلى ما هو أفضل وأثبت إنسانيا.

وبناء على ذلك يجب القول منذ الآن أن دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية.. تستوجب بدقة تحديد مضمون وحدود هذه المرجعية، وإلا فيمكن أن تغدو هذه المرجعية غطاء فضفاضا للكثير من التقاليد المتخلفة المتسلحة بالدين أو المآرب الفاسدة المستغلة للدين والتي تمنع تحرر وتطور المجتمع والدولة والثقافة والمعرفة.

كما علينا أن ندرك ونعترف بأن وضع مرجعية إسلامية للدولة سيتسبب بشعور غير المسلمين فيها بعدم المساواة مع المسلمين، وسيبقى ذلك عاملا على تكريس الانقسام الفئوي.. وعدم نمو وتبلور الهوية الوطنية، كما أنه يجحف بحق الكفاءات في حال خص أي من المناصب أو مواقع المسؤولية بدين معين كما في حالة النص الدستوري على إسلامية رئيس الدولة.

عدا عن ذلك هناك أيضا مشكلة المرأة، فهل ستعني المرجعية الإسلامية الحفاظ على التمييز الجندري الجائر بحقها.. وإعطاءه الشرعية الدينية؟ ولنفرض أن امرأة من أسرة مسلمة -مثلا- رأت أن في تشريع تعدد الزوجات أو نصفية الميراث أو الشهادة القضائية مقارنة بالرجل أو عدم السماح لها بالزواج من رجل من دين آخر ظلما لها، ولجأت إلى الدولة بصفتها مواطنة، فهل ستردها "الدولة المدنية" لأن مطالبها تتناقض مع القوانين ذات المرجعية الإسلامية.. التي لا تعتبر هذه المطالب محقة؟ وأين سيكون دور الدولة وقوانينها المدنية وحقوق المواطنة في هذه الحالة؟!

هناك أيضا مسألة الزواج المدني.. وحق الإنسان بالاختيار الحر للشريك الزوجي بدون أية عقبات دينية أو طائفية.

وهناك كذلك حقوق حرية الرأي والضمير، وهل ستقبل هذه المرجعية الدينية مثلا بأن يغير مسلم ما دينه، أو بأن يعتنق مواطن آخر دينا غير معترف به من قبل هذه المرجعية، وكيف ستتعامل هذه المرجعية مع النقد الموجه إلى الدين، وهل ستعتبره اعتداءا على الأديان وتعاقب من يقوم به؟ وكيف ستعامل الملحدين؟ وكيف ستتعامل مع المتطرفين الإسلاميين.. ودعوات التكفير والتحقير والتحريض على الكراهية؟

والأهم من كل هذه القضايا الكبيرة الأهمية هو كيف ستتعامل هذه "المرجعية الإسلامية" مع "الديمقراطية" نفسها؟

هذه أمور خطيرة، وهي لا تستنفد كل الأمور الخطيرة، ويجب ألا نجهلها أو نتجاهلها.. وألا ننحرج أو نخشى قطعا من طرحها.. والمطالبة بحلول إنسانية عصرية لها، وإلا فلن تكون "الدولة المدنية" لا "دولة" ولا "مدنية" بحق، ولن تكون إلا أكذوبة تضاف إلى سجل الأكاذيب الراهن الكبير الذي جعل شعارات مثل الوطنية والعروبة والحرية والقضية الفلسطينية وسواها أغطية للمصالح الخبيثة، وغطاء يتستر به الانتهازيون.

وهكذا.. وبناء على ما تقدم يصبح جديرا القول "إن مرجعية إسلامية مقبولة لدولة مدنية حديثة مفترضة تقتضي كحد أدنى عصرنة الفكر الإسلامي، والتعامل مع الإسلام والعصر بعقلية العصر، وليس بذهنية القرون الغابرة التي تجعل الإسلام متخارجا مع العصر... وتنتج (دولة) تحاصصية أو  سلطانية أو سلفية في قناع مدني".

 

6-خلاصة:

كثير من العلمانيين يعتبرون "الدولة المدنية" بدعة وخدعة للالتفاف على الاستحقاق العلماني من قبل الإسلاميين، وشرعنة هيمنتهم على الدولة؛ وبالمقابل يفعل الإسلاميون المتطرفون الشيء نفسه ويعتبرون بدورهم هذه الدولة مؤامرة علمانية أو غربية لمنع قيام الدولة الإسلامية المفروضة، والتي لا يرونها عادة إلا في شكل سلفي؛ وبنفس الوقت تطرحها بعض القوى الإسلامية الأقل تطرفا لتكون غطاء يمكّنها من الوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها.

مع ذلك، وكما سلف الذكر لدينا تجربتنا السورية في الخمسينات، ولدى تونس تجربتها الحالية، وكلتاهما تجربتان تثبتان أن الدولة المدنية ممكنة وليست بدعة ولا خدعة.. ولكن هذا يقتضي الفهم الصحيح وصدق النية، فإن توفر هذا لدى القوى السياسية السورية الفاعلة على الساحة السورية اليوم، فيمكن أن تكون الدولة المدنية فاتحة الحل وبداية مسيرة التقدم، وإلا سيستمر الغرق في المشكلة.. التي تحولت إلى أزمة كارثية.

يقول د. برهان غليون: «ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، وعلينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداء لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام»([10]).

وهذا ما علينا فعله في رؤيتنا وموقفنا من أطروحة الدولة المدنية.. وتعاملنا مع مشروعها، وبما أن ديمقراطية هذه الدولة هي شرط جوهري أساسي من أكبر شروطها، فهذا عند الالتزام الكافي به فعليا يضعها على مسار التطور الحقيقي المفتوح، ويعطي الفرصة عند إذن للعلمانيين لنشر الثقافة والوعي العصريين، ويدفع الإسلاميين المنافسين إلى عصرنة أفكارهم ومواقفهم، وهذا يعني المزيد من الديمقراطية والاقتراب من العلمانية وهكذا دواليك.. وهذا هو طريق التطور السلمي الصحيح، لذلك على العلمانيين أن يركزوا جهودهم على إلزام كل الأطراف الأخرى بديمقراطية الدولة المدنية المطروحة، وأن يلتزموا هم أنفسهم قبل غيرهم بها، وعندما تكون الديمقراطية فاعلة ومضمونة، ويشارك فيها الجميع بفاعلية، فستتطور البلاد على كافة الصعد، وسيكون أمام العلمانيين الفرصة لنشر الثقافة العلمانية وكسب الساحة الشعبية، وإحداث النقلة العلمانية المطلوبة، وإن هم عندها لم يقوموا بذلك أو فشلوا في تحقيقه.. فهم من يتحمل المسؤولية؛ واليوم لا سبيل أمامهم غير ذلك، وهذا السبيل- أي الارتقاء إلى العلمانية بشكل تدريجي سلمي تصاعدي-  هو ما تم اتباعه في معظم البلدان العلمانية العريقة في العالم مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها، أما إذا لم يكن العلمانيون السوريون أنفسهم قادرين على إحداث التغيير العلماني المطلوب، فعليهم ألا ينتظروها من أمريكي أو روسي أو أوروبي أو سواهم.

بهذا الشكل يمكن عقلانيا النظر إلى "الدولة المدنية الديمقراطية" كمرحلة أولية موضوعية لازمة للانتقال إلى شكل عصري متكامل للدولة إذا ما احتـُرمت فيها الديمقراطية بالقدر الكافي، وهذا ما يجب أن يركز عليه الجهود كل العلمانيين وغيرهم من القوى الديمقراطية، وبذلك تكون الديمقراطية هي الفيصل وهي الحَكم بين القوى السياسية المختلفة والمتنافسة، أما فرض العلمانية قسرا.. وبأسلوب غير ديمقراطي، فهو لن ينتج علمانية حقيقية عندها، وإن هي لم تكن نموذجا كاريكاتوريا عقيما مثيرا للسخرية، فستكون "ديكتاتورية علمانوية" وخيمة العواقب على الدولة والمجتمع والعلمانية نفسها، فتفسد شروط تطبيقها الموضوعية في المجتمع وتمسخ صورتها في أنظار الناس وتبعدهم عنها.

 

 

 



*

المقالة منشورة في مركز حرمون 

مشروع الدولة المدنيّة في سورية من منظور نقدي

 



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق