فهرس المحتويات

السبت، 2 ديسمبر 2023

ما الفرق بين الدولة المدنية والدولة العلمانية؟

 ما الفرق بين الدولة المدنية والدولة العلمانية؟

رسلان عامر 

 

 
 

منذ انطلاقة حراكات الربيع العربي، بات شكل الدولة العربية المطلوبة إحدى أكثر القضايا التي يتواصل ويكثر فيها الجدل والنقاش وتتعدد الطروحات، وأطروحة "الدولة المدنية" هي واحدة من هذه الطروحات اﻷكثر لفتا للنظر، ولاسيما أن مصطلحا كهذا لا يستخدم في الغرب للدلالة على أحد أشكال الدولة، وبذلك يصبح هذا الطرح طرحا عربيا خاصا وحسب.

يرى البعض أن هذا الطرح هو حل وسط للخروج من مأزق التضاد بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية، اللتين تتموضعان في تواجهه حاد، ويرفض أنصار كل منهما طرح الآخر بشكل صارم؛ فيما يرى آخرون أن هذا المصطلح فضفاض وملتبس وخلافي إلى حد كبير، ولا يقدم صورة واضحة للدولة التي يطرحها، وهو بالتالي لا يقدم حلا حقيقيا، بل يميّع الحل أو يعقده أكثر!

فماذا عن الطرح العلماني؟

 

العلمانية بدورها أيضا هي بدرجة ما مقولة خلافية متعددة المفاهيم، ولكنها مع ذلك أكثر وضوحا وتحديدا من مقولة الدولة المدنية، وهي بمفهومها الضيق تعني الفصل بين الدولة والدين!

إذا ما الغاية من طرح "الدولة المدنية"؟ ولماذا لا نستبدله بطرح "الدولة العلمانية"، طالما أن العلمانية أكثر وضوحا وتحديدا؟

إن المشكلة الرئيسة هنا ليست في وضوح الطروحات بل في واقعيتها، وهنا لا بد من التركيز بقوة على الجانب العملي، فرغم أن العلمانية هي فعليا رغم خلافيتها واضحة ومحددة أكثر من الدولة المدنية، ولاسيما بمفهومها الضيق، لكنها لا تتمتع بامتياز مماثل من الناحية التطبيقية!

في طريقها إلى التطبيق يمكن للعلمانية أن تتم بطريقتين، الطريقة الثورية، أو الطريقة الإصلاحية، وفي كلتا الحالتين هي تحتاج إلى وجود القوى العلمانية الاجتماعية القادرة على القيام بالثورة العلمانية أو إحداث الإصلاح العلماني، لكن عندما لا تكون هذه القوى قادرة على فعل ذلك، فمن هي القوى البديلة التي ستقوم بتطبيق العلمانية؟!

عند فهم العلمانية كنقلة فورية من وضعية الربط بين الدولة والدين إلى وضعية الفصل بينهما في مجتمع يسود فيه التدين ويختلط بشدة مع السياسة، فكيف سيتم تطبيق العلمانية وعلى من سيتم الرهان في ذلك؟!

وفي ظروف لا تتواجد فيها تنظيمات سياسية ومنظمات مجتمع مدني علمانية التوجه وقادرة على حشد الجماهير حولها لتحقيق أهدافها، كيف ستتحقق العلمانية، ولاسيما أن هناك قوى إسلامية قوية الحضور في الشارع الشعبي؟!

 

عدا عن ذلك فعند التزامنا بأطروحة الدولة العلمانية، فيجب أن نسال أنفسنا بمنتهى الجدية عن شكل الدولة المطلوب بالضبط، وهل المطلوب هو فقط إبعاد القوى والمؤثرات الدينية عن مؤسسة الدولة، وهل ستُحل المشاكل عندها، فتتخلّص الدولة من الفساد وتعم الحريات وتـُنال الحقوق ويسود القانون وينطلق التقدم؟!

إن ابسط جواب قاطع يمكن الإجابة به عن هذه التساؤلات هو أن شيئا ذا قيمة من ذلك كله لن يتحقق إذا بقيت الدولة ديكتاتورية، والديكتاتورية لن تزول بمجرد فصل الدين عن الدولة، ولا هي مرتبطة حصريا بارتباط الدين بالدولة!

وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن أي فصل بين الدين والدولة في إطار ديكتاتوري هو عملية عديمة الجدوى، فضرورة الفصل بين الدولة والدين نفسها تأتي في أحد أكبر أركانها الرئيسة من شرطيته اللزومية للديمقراطية، فالديمقراطية تتنافى مع أية دولة دينية أو دولة مهيمن عليها دينيا، ما يعني في المحصلة أن أية علمانية بلا ديمقراطية هي علمانية عديمة القيمة ولا تحقق النتائج الإنسانية المطلوبة!

 

إن ارتباط القيمة الجوهرية للعلمانية بالديمقراطية بشكل جذري، يقتضي التركيز الجوهري على كل الاستحقاقات التي تقتضيها الديمقراطية إلى جانب العلمانية بمفهومها الضيق كفصل بين الدولة والدين، فدولة ديكتاتورية منفصلة عن الدين لن يكون عموما بينها وبين دولة ديكتاتورية مرتبطة بالدين أو حتى بينها وبين ديكتاتورية دينية أي فارق جوهري، فالديكتاتورية تبقى على حالها جوهريا، والاختلاف يكون في الشكليات والهوامش فقط، لكن كل ديكتاتورية أيا كان شكلها تبقى دوما ثقلا جاثما على حياة شعبها وقيدا شديد الوطأة على حركة التطور في مجتمعها، وهي تكبت وتحبط قدرات شعبها على التقدم والابتكار والإبداع!

 

الفرق الحقيقي تصنعه الدولة الديمقراطية الحقيقية، وهي لن تكون كذلك إلا إذا كانت دولة مستقلة بشكل حقيقي أيضا، واستقلال الدولة بهذا المعنى يقتضي ألا تكون هذه الدولة مهيمنا عليها من قبل أي طرف مهيمن، سواء كان هذا الطرف دينيا أو طائفيا أو عسكريا أو بوليسيا أو عرقيا أو قوميا أو حزبيا أو سياسيا أو طبقيا أو اقتصاديا أو سوى ذلك، فبهذا الشكل وحسب يمكن للدولة أن تعمل باستقلالية، وتكون فعليا دولة الشعب، التي تمثل الشعب، وتعمل لصالح الشعب وتحت رقابة الشعب لكي تقوم بدورها هذا!

وهكذا يمكننا القول بشكل جازم أنه لا بد من فصل الدولة عن الحزبية والإيديولوجيا والقومية والطبقية، ولابد أيضا من فصل السياسة والسلطة عن الجيش والبوليس وأجهزة اﻷمن، وبدون فعل كل هذا ففصل الدولة عن الدين إما أنه لن ينتج شيئا أو أنه لن ينتج ما يكون له أثر فارق!

 

إن أهمية وقيمة فصل الدين عن الدولة لا تأتي منه كإجراء بحد ذاته، بل تأتي بدرجة جد كبيرة من أهميته وضرورته للديمقراطية، فالديمقراطية لا يمكنها أن تتحقق في دولة دينية أو في دولة مؤطرة دينيا، أو تابعة لمرجعية دينية، والتطور الشامل والمضمون للمجتمع لا يمكنه أن يجري إلا في ظروف من الحرية والاستقلالية التي يتحرر فيها المجتمع من كل القيود، أيا كانت هذه القيود، التي تفرض على حركته إرادات أصحابها الخاصة، فتمنعه من التطور والتقدم بحرية!

 

مما تقدم يمكننا القول أن العلمانية بمفهومها الضيق هي تحديد للعلاقة بين الدولة والدين ولموقع الدين من الدولة وفي الدولة، لكن العلمانية بهذا المفهوم لا تحدد العلاقات والمواقع بين الدولة والقوى المسلحة والقوميات واﻷحزاب والإيديولوجيات والتقاليد والطبقات والسوق وسواها من القوى الفاعلة والمؤثرة في مجتمعها وحياة سكانها؛ وهكذا فمن الممكن بالمفهوم الضيق للعلمانية كفصل بين الدولة والدين أن تكون الدولة العلمانية دولة قومية أو عسكرية أو بوليسية أو حزبية أو طبقية أو حتى ملكية، وهلم جرى من هذه اﻷشكال التي تتناقض مع الديمقراطية، أي باختصار يمكن للدولة العلمانية أن تكون دولة ديكتاتورية حقيقية رغم تحقيقها التام لشرط العلمانية بمفهومها الضيق!

 

ذاك يعني أن مفهوم العلمانية كفصل بين الدولة والدين وحده لا يكفي، ولا بد من دمجه في مفهوم أشمل، فهل يمكن أن يكون "مفهوم المدنية" هو هذا المفهوم؟

للبت في هذا اﻷمر لابد أولا من تحديد معنى "المدنية"، فصفة مدني يمكن أن تعني غير الديني وغير العسكري كما في القول شخص مدني ورجل دين وشخص عسكري، كما أنها يمكن أن تعني غير الحكومي وغير السياسي كما في مفهوم المجتمع المدني، وأيضا يمكن أن تعني المديني في مقابل الريف أو القروي، ويمكن أن تعني الحديث في مواجهة التقليدي، وكلمة "مدنية" بشكل عام يمكنها أن تعني التحضر أو الحضارة.

وكما نرى فصفة مدني لها العديد من المدلولات، ومعظمها يناسب كصفة للدولة العصرية الحديثة، فهذه الدولة ليست دولة سلطوية ولا هي دينية أو طائفية أو عسكرية أو بوليسية أو طبقية أو حزبية أو إيديولوجية، ولا تتصف بأية صفة من صفات التسلط أو العصبوية أو الفِرقية، وهي دولة حضارية إنسانية بالمفهوم الحديث للإنسانية والحضارة، وبهذا المعنى تكون أيضا دولة مدنية، تعني مدنيتها أنها حضارية إنسانية عصرية، وعليه يمكن القول أن الدولة المدنية تعني الدولة الإنسانية الحديثة أو الدولة الحداثية بالمفهوم الواسع للحداثة، وصفة المدنية فيها مشتقة من المدنية بمفهومها الحديث الذي يعني الحضارة العصرية!

 

بهذا الشكل نكون قد وصلنا إلى خلاصة يمكن القول فيها أن الدولة المدنية ليست بديلا للعلمانية أو للدولة العلمانية المفهومة كدولة منفصلة عن الدين، بل هي الشكل الموسع من هذه الدولة، الذي لا يُكتفى فيه بفصلها عن الدين وحسب، بل تُستكمل فيه كل الشروط والضرورات اللازمة لها لتكون دولة حضارية حديثة متكاملة!

وهكذا تتكامل العلمانية مع المدنية بشكل جدلي وتتحقق في سياقها وليس بشكل منفصل عنها أو بديل لها، فيصبح كل تقدم أو إنجاز على الصعيد المدني هو ضمنيا تقدم على مستوى العلمانية بنفس الوقت.

 

لكن مع ذلك يبقى قائما السؤالُ الحرج عن كيفية وإمكانية تحقيق العلمانية في المجتمعات العربية، التي تسود فيها اليوم درجة واسعة ومرتفعة من التدين، ويتواجد فيها الكثير من القوى الإسلامية المنظمة المؤثرة، مقابل وجود محدود للقوى العلمانية التي تتبنى العلمانية بشكل صريح وواضح.

فما هي خيارات العلمانيين العرب في هذه الحالة؟

على أرض الواقع يمكننا أن نصنف القوى الموجود اليوم في المنطقة العربية بشكل عام كما يلي:

 -1الديكتاتوريات الحاكمة، وأتباعها الذين تشكل المؤسسة الدينية الرسمية أحد القوى الرئيسة فيها، وهذه المؤسسة الموالية للسلطة هي أيضا مؤسسة تقليدية محافظة يتميز إسلامها بأنه شديد الإنطباع بطابع السلف، وعادة ما تتحالف السلطة السياسية مع هذه المؤسسة أو تستتبعها لتكسب من خلالها تأييد وطاعة الجمهور المتدين، وعدا عن هذه السلطة الدينية، فالديكتاتورية لديها العديد من الأتباع الآخرين، الذين يوالونها إما بسبب خبث المصالح، أو الرضوخ إلى الأمر الواقع، أو اختيار أهون الشرين عندما يعتقدون أن القوى التكفيرية هي البديل الوحيد عنها، وفي بعض الأحيان قد تلعب العوامل الطائفية والعرقية والعشائرية أدورا مهمة في هذا الولاء، وهلم جرى...

-2 قوى الإسلام السياسي المتشددة أو المتطرفة، وهي قوى منظمة ومؤدلجة، يناصرها أو ينتظم فيها الكثيرون من المتدينين الشديدي والمتشددي التدين، وهي تتبنى أطروحة الحل الإسلامي المتمثل بإعادة بناء دولة الخلافة، وإسلامها سلفي المرجعية، ويتميز بالتزمت والتشدد، وهي ترى أن سبب ما نحن فيه من فساد هو في ابتعاد الناس عن دينهم، ولابد من إعادتهم إليه بكل السبل، وأكثرية هذه القوى لا تقبل الاختلاف والتعددية، ولا تقبل المساواة مع الآخرين هذا إذا لم ترفض وجودهم، والكثير من هذه القوى لا يمانع استخدام العنف لتحقيق أغراضه، وهو عبارة عن قوى تكفيرية تكفّر كل من يخالفها الرأي حتى وإن كان مسلما.

 -3القوى الإسلامية المعتدلة، وهذه قوى هي الأخرى أيضا قوى منظمة ومسيّسة، ولكنها أكثر انفتاحا ومرونة من سابقتها، وهي لا تطرح حلا إسلاميا أو تسعى لاستعادة دولة الخلافة، وتقبل بدولة حديثة على غرار الدولة الغربية العلمانية، لكن بشرط أن تبقى قوانين هذه الدولة متوافقة مع الشرع الإسلامي، وهذه القوى عموما تطلق على نموذج الدولة الحديثة المتوافقة مع الشريعة الذي تتبناه تسمية "الدولة المدنية" تمييزا لها عن "الدولة العلمانية" وهذه بالطبع مفهوم خاص للدولة المدنية، لا يستنفد كل مفاهيمها.

4- القوى المدنية العامة، وهذه القوى تضم أشخاصا مسلمين كثيرين من شرائح مختلفة، لا ينتمون إلى أية أحزاب أو تنظيمات سياسية أيا كانت، أو ينتمون إلى أحزاب وتنظيمات غير إسلامية وغير علمانية بنفس الوقت، ويمكن لهذه الأحزاب أن تكون قومية أو اشتراكية أو ليبرالية محافظة أو وطنية إصلاحية أو غير ذلك، وإلى هذه الشريحة ينتمي أيضا المفكرون الإسلاميون الحداثيون، الذين يتبنون فكرة عصرنة الإسلام، وجميع من تقدم ذكره في هذه الفئة لا يمانعون بدورهم إقامة دولة حديثة مشابهة للدولة العلمانية الديمقراطية الغربية بشرط بقائها متوافقة مع الإسلام، وبذلك يلتقون مع الإسلاميين المعتدلين حول شكل الدولة التي يسميها هؤلاء بالدولة المدنية.

5- القوى العلمانية، وهذه القوى، كما سلف الذكر، تتبنى العلمانية وتطرحها بشكل صريح، ومفهوم العلمانية لديها يتمثل بشكل عام بالفصل بين الدين والدولة، الذي يعني أن تكون مؤسسة الدولة منفصلة تماما عن المرجعيات الدينية وتعتمد دستورا وقوانينا وأنظمة عمل غير دينية ولا ترتبط بأي دين، وهذه القوى بالنسبة لها مبدأ "الفصل بين الدولة والدين" هو مبدأ قاعدي، منه تنطلق نظريا وإليه تسعى عمليا، ومثل هذا التبني للعلمانية يمكن القول عنه بأنه حالة "إيديولوجية أو أدلجة علمانية".

 

بين تلك القوى، يمكن القول عبر استقراء الواقع، أن القوى العلمانية هي الأضعف، وهي غالبا نخب سياسية وثقافية قليلة الحضور بين الجماهير أو معزولة عنها.

 أما القوة الأكبر بالطبع فهي الديكتاتوريات الحاكمة التي تتحكم وتسيطر على كل قوى الدولة العسكرية والاقتصادية والإعلامية ولديها الكثير من الأعوان المختلفين، ومن أهمهم المؤسسة الدينية الرسمية.

 ويلي تلك القوة قوى الإسلام السياسي المتزمتة، التي لديها اليوم حضور كبير في الشارع العربي الذي يغلب عليه اليوم التشدد الديني، وهي تحظى أيضا بدعم كبير من بعض الجهات الداخلية والخارجية القوية التي من مصلحتها الاستثمار السياسي في التطرف الديني.

القوى المدنية العامة هي الأخرى لها وزن كبير، ولكنها بشكل عام تفتقر إلى التنظيم الكافي والرؤية الموحدة لتصبح قوة مؤثرة في مجتمعاتها، ومشاركتها في العمل الحزبي أو الأعمال السياسية أو المدنية أو الاجتماعية العامة قليلة، وهذا عائد بشكل رئيس إلى ضعف التجربة السياسة بشكل عام في العالم العربي بسبب الإرث التاريخي المطبوع بطابع عصر انحطاط الحضارة العربية من جهة والديكتاتوريات الراهنة الحاكمة من جهة ثانية.

وبدورها القوى الإسلامية المعتدلة لها حضور وتأثير على الساحة العربية، ولكنها اليوم أخفض صوتا بكثير من قوى التطرف التي ساعدتها وتساعدها مجموعة مختلفة من الظروف والعوامل، لكن مع ذلك فثمة احتمال كبير بأن تتمكن هذه القوى المعتدلة من لعب دور أكبر في الفترة القادمة، خصوصا بعد العواقب الوخيمة التي جر المتطرفون المنطقة العربية إليها بشكل عام.

 

وفي وضع كهذا الوضع، وعندما يطرح العلمانيون العرب فكرة الفصل بين الدين الدولة فهم سيجدون أنفسهم في حالة مواجهة مع قوى الإسلام التزمتي وقوى الإسلام السلطوي، وسيكونون مرفوضين من قبل قوى الإسلام المعتدلة، ولن تؤيدهم أيضا حتى القوى المدنية العامة، هذا إذا لم ترفضهم هي الأخرى بدورها، فإلى أية نتيجة سيصلون في مثل هذا الوضع؟

هنا لن يكون بمقدور العلمانيين العرب فعليا إحداث أي تغيير، وسيجدون أن الأقل سوءا بالنسبة لهم هو بقاء الأوضاع على حالها، لأن الديكتاتوريات العربية بوضعها السياسي المختلط ستكون بالنسبة لهم أقل سوءا من أي بديل إسلامي متطرف، وليس هذا فحسب، بل أن بعضهم سيؤيد هذه الديكتاتوريات خوفا من ذاك البديل، وهذا فعليا ما رأيناه على أرض الواقع في معمعة سيطرة الإسلام السياسي بشكله المتشدد على الربيع العربي!

ولكن أليس هناك بديل آخر غير الديكتاتوريات السلطانية والإسلام السياسي المتطرف؟!

بالطبع هناك بديل، وهو البديل الديمقراطي، وفيه سيجد العلمانيون أنفسهم في مواجهة كل من الديكتاتوريات المتسلطة الحاكمة وأعوانها من جهة، وفي مواجهة المتشددين والمتطرفين الإسلاميين من جهة أخرى، ولكنهم لن يكونوا قطعا وحدهم في هذه المواجهة، فمعهم سيكون أيضا القوى الإسلامية المعتدلة والقوى المدنية العامة، بل ويمكن أيضا حتى لبعض القوى الإسلامية المحافظة أن تنحاز إليهم عندما ترى بدورها لاواقعية وخطورة أطروحة الحل الإسلامي ومشروع إحياء دولة الخلافة.

في هذا البديل لن يكون مقبولا قطعا طرح الفصل بين الدولة والدين كشرط مسبق، فهذا سيؤدي إلى تفرقة الصف الديمقراطي، ولكن سيكون من الممكن الالتقاء فيه على نقاط فيصلية كبرى في مدنية وحضارية وحداثة الدولة، ومنها الوطنية والديمقراطية والحرية وضمان حقوق الإنسان والتعددية وسواها، وبالتأكيد هذا الالتقاء لن يتم على طريق مفروش بالورد، وستعترضه خلافات عديدة وشديدة، ولكن ستكون إمكانية حلها بالحوار ممكنة، وستتاح في هذه الحالة الفرصة لمواجهة الديكتاتورية السلطوية والتطرف الإسلاموي بجبهة موحدة، فإذا ما تحقق الانتصار الأولي على هذين الخصمين، فسيكون الاتفاق المتعاقـَد عليه بين الأطراف الديمقراطية هو القاعدة التي سيتم بموجبها بناء الدولة الحديثة غير المشروطة إلا بشروط المدنية أو الحضارة الحديثتين، التي تعني من ضمن ما تعنيه حماية وضمان حقوق وحريات الإنسان وحل الخلافات بشكل سلمي عبر الحوار واتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي، وبالطبع.. ممارسة الحكم بشكل ديمقراطي، فإن حدث هذا، فعندها سيكون بمقدور هذه الدولة التطور بشكل سليم في مدنيتها الحديثة، وبقدر ما تفعل ذلك سيصبح من اﻷسهل عليها شيئا فشيئا حل مسائلها التي تحتاج إلى حل، وهي نفسها ستتطور بشكل تلقائي أكثر فأكثر باتجاه الفصل بينها وبين الدين، وبشكل يعود بالخير على كل منهما معا!

 

قد يُعترض على هذا الكلام بأن بعض القوى الانتهازية أو المتطرفة قد تندس بين القوى الديمقراطية وتستغلها ثم تنقلب عليها!

لا ضمان بتاتا بأن هذا لن يحدث، ولكن المؤكد أن هذه القوى المندسة إن فعلت ذلك، فهي عندها ستضع نفسها في مواجهة الصف الديمقراطي، ولا ضمان قطعا عندئذ أيضا بأنها لن تخسر المواجهة، وهذا هو الأرجح!

 

خلاصة الكلام هي أنه رغم أن الربيع العربي زلزل أركان الديكتاتوريات العربية، وأسقط بعض الحكام الديكتاتوريين، إلا أن الانتصارات المتمثلة بالإطلاق الحقيقي لعملية بناء الدولة الحديثة لم تتحقق بعد، فقد عادت الديكتاتورية في بعض البلدان وانقلبت على الثورة، ودخلت بلدان أخرى في صراعات داخلية مدمرة، فيما نتجت أشكال جديدة مختلفة من الاستبداد في سواها، وماتزال الغاية الرئيسة المتمثلة ببناء الدولة العصرية الحديثة هدفا صعب المنال.

 

وبما أن الدولة العصرية الحديثة هي الغاية، فعلينا أن ندرك أنّ هذه الدولة هي ليست دولة منفصلة عن الدين وحسب، وأنّ ما وصلت إليه من تطور وتقدم لم يأت حصرا نتيجة الفصل بينها وبين الدين، فهذه الدولة هي دولة حضارية أو مدنية حديثة متكاملة الحداثة والتمدن، والفصل بينها وبين الدين جاء كعنصر وعامل جدلي تكاملي في سياق تطور هذه الدولة الحضاري.

ولذا على العلمانيين العرب أن يكفوا سياسيا عن طرح الفصل بين الدولة والدين كشرط مسبق أو هدف مستقل في مشروعهم لبناء الدولة الحديثة، والتركيز بدلا من ذلك على حداثة هذه الدولة أو مدنيتها بمفهومها الحديث، وهذا بدوره يتضمن طرحا ضمنيا تكامليا لعلمنة الدولة عبر التركيز على الضرورات الحداثية التي تنتج عنها حكما عند تحققها العلمنة، أما الطرح الاستباقي لهذه العلمنة فهو سلوك تعسفي يضر ولا ينفع!

لكن بالطبع بمستطاع العلمانيين أن يستمروا بالمطالبة بالفصل بين الدين والدولة من منطلق تنويري، وفي مشروع تنويري وليس في برنامج سياسي!

بل أن من الضروري أن يفعلوا ذلك لنشر الثقافة والفكر العلمانيين، ولكن هذا يعطي بالمقابل الحق لغيرهم بأن يطرح وينشر بدوره ثقافته وفكره المختلفين، وهذه هي الديمقراطية والمدنية الحديثة!

 

*

27-28/5/2022

*

المقالة منشورة في مركز "حرمون" وعلى موقع "الصفحات السورية"

 *

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق