فهرس المحتويات

الأحد، 26 فبراير 2017

سوريا و مستقبل المشاريع القومية


 رسلان عامر

 

I- مقدمة :

لا يبدو أن حلا قريبا سينهي الصراع الدامي في سوريا، و يضع أسس الدولة السورية المستقبلية، و ما تزال ملامح هذا الحل حتى اليوم غير واضحة المعالم، و كثيرة هي الأسئلة التي ما تزال تبحث عن الحل، و من بين أهمها السؤال المتعلق بالهوية الوطنية و الهوية القومية، و في هذا المقال سنناقش قضية هوية سوريا  بين العروبة و السورية و الإسلام و التعددية.

 قبل الدخول في الموضوع لابد لنا بداية ً من تحديد معني بعض المفاهيم توخيا لمزيد من الدقة في الكلام عنها، و هي : (القومية، القوم، الأمة، الدولة القومية، الدولة- الأمة، الأمة –الدولة،  الدولة الحديثة، الجنسية ، و الهوية).

  القومية:
  مصطلح "القومية "، مصطلح واسع الاستخدام، متعدد الدلالات، و هو بشكل رئيس يمكن أن يعني ما يلي :
1-  القومية (nationality) – على مستوى الفرد- هي شعور بالانتماء إلى جماعة ذات صفات محددة، و عادة ما يكون هذا الشعور إيجابيا و مقترنا بقبول هذه الجماعة و قبول الصفات التي تختص بها.
2-  القومية (nationality) – على مستوى الجماعة – هي مجموعة من الصفات المشتركة بين جماعة كبيرة من الناس، مترافقة بشعور بالانتماء الجماعي لهذه الجماعة، و بهذا المعنى تأخذ " القومية" مدلولا اجتماعيا و ثقافيا، و تدل على ثقافة الجماعة و تقاليدها و طموحاتها، و على الروابط التي تجمع بين أبنائها، و هي تعبر عن نظرة الجماعة إلى ذاتها، أو صورتها عن نفسها، و في هذه النظرة تجيب الجماعة عن سؤالها "ما أنا؟"، و الجماعات الأخرى عن سؤال "ما هي؟".
3-  القومية (nationality) – على المستوى العالمي – هي جماعة كبيرة من الناس الذين تجمعهم صفة محددة أو أكثر و تميزهم عن سواهم من الجماعات البشرية، و هنا يعبر مفهوم "القومية"  عن الجماعة بصفتها كيان أو شخصية لها استقلاليتها و تميزها عن غيرها ، و تصبح بهذا المعنى تعبيرا عن رؤية الجماعة  نفسها كشخصية، و رؤية  الجماعات الأخرى لهذه الجماعة بصفتها "جماعة أخرى" أو "آخر"، و في هذه الرؤية تجيب الجماعة عن سؤال "من أنا"؟ و يجيب غيرها عن سؤال "من هي؟ المتعلق بها.
4-  القومية (nationalism) : شكل حديث من أشكال الإيمان و الحراك القومي الفكري أو السياسي أو الثقافي، و أساسه الإيمان بالجماعة القومية و خصوصياتها المميزة، و الاعتزاز بتاريخها و ثقافتها، و السعي لحماية كيانها و تطويره، و العمل على الدفاع عن مصالحها.

القوم :
(ethnos) و هو يدل على جماعة من البشر ذوي الأصل العرقي المشترك و التقاليد و العادات الخاصة، و بهذا المعنى يمكن للقوم أن يدل على قبيلة، أو مجموعة من القبائل ذات الأصول العرقية و التقاليد الاجتماعية المشتركة.

الأمة :
(nation) ، هي بالمفهوم القديم تعني تقريبا ما يعنيه "قوم" أو "قومية " بمعناها الدال على الجماعة ككيان و شخصية مستقلة، أما بالمفهوم الحديث فهي تدل على شكل أرقى من أشكال الاجتماع و التجومع البشري، و فيه تصبح الجماعة البشرية أكثر وعيا لذاتها و خصوصيتها و قدرة في التعبير عنها، و أكثر تنظيما في علاقاتها الداخلية و إدارة شؤونها الخاصة، و المفهوم الحديث للأمة، يكاد يتطابق مع مفهوم "شعب" بالمعنى السياسي الحديث، الذي يدل على مجموعة الناس الذين يعيشون في إطار دولة موحدة كالألمان و الفرنسيين، أو الذين يسعون لامتلاك دولتهم الواحدة الخاصة كالعرب و الأكراد .

الدولة القومية:
(national state) هو مفهوم جديد نسبيا  للدولة ( القرن 19 تقريبا)، يقوم على فكرة إنشاء الدولة على أساس قومي – أو حتى عرقي – و قد جاء نتيجة تطور الفكر السياسي الغربي بعد تحرره من هيمنة الكنيسة الغربية، و إحساس القوميات الغربية  بالاستقلالية و الخصوصية بعد فقدان الرابطة الكنسية و الدينية الجامعة، كما لعبت البرجوازية التجارية و الصناعية دورا في تطوير هذا التوجه و دفعه إلى الأمام لأنه ينسجم مع مصالحها، و سنعود إلى هذا لاحقا، و الدولة القومية غالبا ما تتخذ احد الشكلين التالين:

  1 - الدولة- الأمة:
  (state-nation)، و هي دولة تقوم على فكرة أن الدولة الواحدة يجب أن تكون أمة واحدة متجانسة قوميا، و ذات لغة و ثقافة و تقاليد واحدة، و لا مجال فيها  للتنوع القومي و التعددية الثقافية،  و في حال كانت الدولة تتكون من مكونات قومية و إثنية مختلفة، فالقومية الغالبة بينها تسعى لفرض لغتها و ثقافتها على الأقليات  ودمجهم فيها بالقوة، و إن استعصى الأمر فقد يتراوح الموقف منهم بين تقليص الحقوق و الإقصاء و التهميش أو الحرمان من الجنسية، و قد يصل الأمر إلى حد التطهير العرقي، و كمثال شديد التطرف على هذا النموذج يمكننا ذكر "تركية الطورانية" التي ترافق إنشاؤها بمذابح الأرمن، و تهجير يونان القسطنطينية، و عدم الاعتراف بقومية الأكراد و محاولة تتريكهم و ما شابه، كما يمكننا ذكر مثال آخر، و إن كان أقل تطرفا، و هو "دولة البعث" التي  - و إن لم تقم بمجازر بحق أحد أو تشرد أحد- قد اعتبرت نفسها دولة قومية عربية، و ترافق هذا بدرجة من الاضطهاد لبعض القوميات الأخرى كالأكراد و الآشوريين.

  2- الأمة الدولة:
  (nation-state)، و هي عقيدة أو رؤية تقوم على فكرة أن كل أمة لها الحق بأن يكون لديها دولتها المستقلة، و عادة ما ينتشر هذا الفكر بين الأمم التي ليس لديها دول خاصة بها، و تكون داخلة في عداد دولة متعددة القوميات كالشيشان في روسيا.. أو موزعة على عدة دول كحال الأكراد و توزعهم بين تركيا و إيران و العراق و سوريا، و هذا الفكر عادة يؤدي إلى سعي نحو الانفصال، مما يؤدي إلى صراع مع الدولة القائمة، سواء كانت الدولة قومية كدولة البعث التي كانت علاقاتها متوترة و متشنجة دائما مع الأكراد بسبب تماهي كل من الأمة و القومية عند الطرفين، أو كانت الدولة تعددية كروسيا و حربها مع الشيشان، و الهند و صراعها مع الانفصاليين الكشميريين.

    و كما نرى ، فكل من الدولة الأمة أو الأمة الدولة، هي فكرة أساسها التماهي و التطابق بين مفهومي "الدولة" و "الأمة"، و قيام – أو السعي لإقامة – الدولة على هذا الأساس  يكون عموما مترافقا بالصراعات القومية و الإثنية و الطائفية، من ناحية، و بغياب الحريات و تدني مستوى الحقوق الإنسانية ، فالدولة القائمة على مبدأ التماهي بين الدولة و الأمة، تحتاج عادة إلى مؤسسة بوليسية قمعية قوية في صراعها مع أقلياتها، و لكن وجود مثل هذه المؤسسة و في أجواء صراع، لن يقتصر على قمع فئة دون سواها، بل سيطال القمع الجميع، و سيصبح الصراع ذريعة للاستبداد ومبررا له.

الدولة الحديثة:
(modern state)، هو مفهوم تقوم فيه فكرة الدولة على المساواة التامة بين كافة مواطنيها، و تمنع جذريا التفرقة بينهم على أي أساس عرقي أو قومي أو ديني، أو جنسي ، و تكون الدولة فيه على مسافة واحدة من كافة الجماعات القومية و الدينية و الثقافية و سواها المتواجدة فيها، ما دامت هذه الجماعات ملتزمة بالقانون، و يسمح لها بممارسة أي نشاط تريد في إطار هذا القانون، الذي لا يقصي أحدا على أساس أي انتماء، و لا يمنعه من ممارسة أي نشاط مرتبط بهذا الانتماء، مادام هذا النشاط لا يلحق الأذى بأحد، و هذه الدولة هي ما يطلق عليها تسمية "الدولة الديموقراطية" و هي حكما "دولة علمانية".

الجنسية :
(citizenship)، هو مفهوم مرتبط بالمواطنة، التي تعني الكون رسميا و على المستويين السياسي و القانوني أحد مواطني الدولة، و التمتع بمجموعة من الحقوق و الالتزام بمجموعة من الواجبات، التي لا يتمتع أو يلزم بها من لا يعتبرون مواطنين ممن يعيشون في هذه الدولة ، و الدول غير الديموقراطية لا تقترن فيها المواطنة بالمساواة، فمثلا في العديد من الدول الإسلامية ذات التنوع الديني، يمنع بموجب الدستور على المسيحي منصب رئيس الجمهورية – مع أن الرئاسة في معظمها شكلية -، كما بنص الدستور على أن "الإسلام" هو المصدر الأساسي للتشريع، أما الدول الديموقراطية العلمانية، فلا فرق من حيث المبدأ بين كافة مواطنيها على أساس القومية أو الدين أو العرق أو الجنس، و الدولة تكون محايدة إزاء كل الأديان و العقائد و الإيديولوجيات المنتشرة بين مواطنيها و الجماعات التي ينتمي إليها هؤلاء المواطنون .

الهوية:
(identity) هو مصطلح  يدل على  مفهوم الشخص لفرديته و تعبيره عنها، و على علاقته الانتمائية مع الجماعات  المختلفة ( القومية، الوطنية، الدينية، الثقافية، السياسية، إلخ..)، و مدى تجسيده للنموذج الإنساني الذي يتطابق مع الصفات الخاصة بكل واحدة من هذه الجماعات، و بالتالي يمكن الحديث عن عدة أشكال من الهوية، كالهوية القومية و الهوية الوطنية و الهوية الثقافية و غيرها، و قد يختصر الإنسان فرديته بهوية واحدة رئيسة، أو بشكل محدد لهوية ما، أو يقبل تعدد الهويات أو أشكال الهوية، فمثلا قد يقبل شخص ما أن يكون مسلما و عربيا بنفس الوقت أو بالعكس، فيما يرى آخر أن الهوية الإسلامية تتعارض مع القوميات و أنه لا قومية في الإسلام، و قد يماهي شخص ما "عروبته" مع القيم و المعتقدات الإسلامية – مثلا –  على مبدأ "العروبة جسد روحه الإسلام "،فيما يرى سواه أن الكون عربيا لا يمنع المرء من امتلاك أكثر الثقافات عصرية بغض النظر عن منشئها، و بالتالي يمكن للعربي أن يكون علمانيا أو شيوعيا أو وجوديا ، وغيرها دون أن يفقد عروبته.
  هذا من ناحية الفرد، أما من ناحية الجماعات أو الدول، فالهوية تعني الصورة الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية و ما شابه، التي ترى فيه الجماعة نفسها، هذا بالنسبة للجماعات، فهناك جماعات قومية، و دينية ، و ثقافية، و سياسية، الخ..، و بالنسبة للدول، الهوية هي مجموعة الأسس التي تقوم عليها هذه الدولة أو تلك، فالدولة قد تكون دينية أو علمانية، قومية أو متعددة القوميات، ديمقراطية أو ديكتاتورية، اشتراكية أو رأسمالية ، و هكذا دواليك .


II   - نشأة القوميات أو الجماعات القومية :

    تنشأ القوميات أو الجماعات القومية :
- إما بتطور و نمو جماعة عرقية ذات أصل مشترك، وهذا هو الشكل الطبيعي المحض لنشوء الجماعات القومية، و هو الشكل الأكثر قدما لنشوئها، و بهذا الشكل نشأ العرب و اليونان و الرومان و الفرس و سواهم من قوميات العالم القديم.
- أو باندماج مجموعة من الجماعات القريبة من بعضها عرقيا بدرجة أو بأخرى في ظروف اجتماعية و ثقافية و سياسية مناسبة، كنشوء دولة موحدة قوية، أو انتشار ثقافة ، أو انتشار لغة، و بهذا الشكل نشأ السريان الذين يعودون إلى أصول آرامية و كنعانية و عمورية و سواها، و قد ساعد على هذا تقارب ثقافات هذه الأقوام من الأساس نتيجة قرابتها العرقية و تقاربها الجغرافي ، و من ثم انتشار اللغة الآرامية و الدين المسيحي. و كالإنكليز الذين نشؤوا نتيجة اندماج بعض القبائل الجرمانية الأنغلوساكسونية  (Anglo-Saxons) كالإنغلز و السكسون و القوط بشكل أساسي مع بعض القبائل ذات الأصل السلتي (Celtic) و البيلجي (Belgic).
 - أو بتأثير قوى سياسية منظمة ( حركات، أحزاب، ..) تتبنى إيدولوجيات قومية (كالطورانية التركية) و ( كالحركة القومية العربية)  تساهم بشكل فعال بدمج مجموعة من الجماعات التي تجمعها العديد من العوامل التاريخية و الثقافية  التقليدية المشتركة، أو باندماج مجموعة من أصول مختلفة تجمعهم المصلحة العامة المشتركة و التقافة العامة المشتركة و تأسيسهم لدولة حديثة على غرار أمريكا و كندا و أستراليا و أمثالها، حيث تتساوى فكرة القومية مع المواطنة و الأمة مع الشعب بالمفهوم السياسي الحديث لمصطلح شعب.

      و مع تكون الجماعة القومية و تطورها و استمراريتها، يصبح لديها عادة ً :
      - لغة واحدة.
      - ثقافة خاصة.
      - تاريخ مشترك.
      - أرض مشتركة.
      - مصلحة مشتركة.  
      و يتم الانتماء إليها عادة بالتواتر عبر الولادة، أو بالاندماج في بعض الأحيان.

   
     III - عرب أم سوريون؟:
                                                      
     لقد تشكل الوعي القومي و الشعور القومي عند الشعوب منذ العصور القديمة، فمثلا، قبل الميلاد بقرون كان العرب يميزون أنفسهم قوميا عن غيرهم من الشعوب، و كذلك كان الآراميون و الإغريق و الرومان و سواهم، و لكن لم تعرف في تلك الآونة "قومية سورية" أو "شعبا سوريا" على غرار "العرب" أو "الروم" – مثلا – ففي سوريا تعاقب و تجاور عدد من الشعوب القومية كالعموريين و الكنعانيين و الآراميين، و لاحقا العرب الذين بدؤوا بدخول سوريا في بدايات الألفية الميلادية الأولى، أما تسمية "سوريا" نفسها فقد أطلقها اليونان على سوريا الطبيعية – أو بلاد الشام – و يرجح أنها مشتقة من تسمية الإمبراطورية الآشورية "آشوريا"، حيث أن الاختلاف في اليونانية بين سوريا "Syria" و آشوريا "Assyria" هو فقط في حرفين أحدهما تضعيف لما بعده، إلا أن بعض المؤرخين يطرحون فكرة مجيء تسمية "سوريا" من تسمية المدينة الفينيقية الأشهر "صور".
   لكن في الفترة اللاحقة، الممتدة بين الميلاد و القرن السابع الذي أصبحت فيه سوريا تحت سيطرة العرب المسلمين، عرفت سوريا درجة كبيرة من الاندماج ، و هذا الاندماج تعود بداياته إلى مرحلة طويلة قبل الميلاد، و قد أتى نتيجة لتقارب أصول و ثقافات المكونات العرقية التي تعايشت على أرض سوريا، و غلبة العنصر الآرامي عليها و انتشار اللغة الآرامية في كل من سوريا الطبيعية و ما بين النهرين، ثم أتى انتشار المسيحية ليضيف عاملا قويا آخرا لعوامل الاندماج، كما لعب وجود سوريا تحت إدارة سياسية موحدة – حتى و لو كانت أجنبية – (فرس، إغريق، روم، بيزنطيون) دورا مساعدا إضافيا في عملية الدمج، و مع غلبة كنيسة إنطاكية على باقي الكنائس، تشكلت في سوريا حالة وحدة شبه قومية، و هكذا ظهر السريان.، و هم يشكلون حالة قومية و دينية بنفس الوقت، فوحدة اللغة و وحدة الدين ساهمت و عززت عملية اندماج المكونات العرقية القريبة من بعضها أصلا في جماعة توحدها اللغة و الديانة و الأرض.
  إلا أن الحالة السريانية لم تتمكن من التطور و التبلور لتصل إلى مرحلة الأمة، لأسباب عديدة من أهمها:
-         عدم انفصال "القومي" عن " الديني" في منظور الهوية السريانية، و"غلبة الديني على القومي".
-         عدم استقلالية سوريا التي بقيت خاضعة لحكم البيزنطيين ، و خضعت بعدهم لحكم العرب.
-    عدم تحقيق الاندماج التام بين الجماعات المقيمة على الأرض السورية، مع وجود جماعات غير سريانية من الناحية الدينية، أو القومية أو اللغوية بجوار السريان أو بين ظهرانيهم  كالعرب و اليهود، و الجاليات اليونانية و الرومانية، و أتباع الكنائس الأخرى، و سواهم..

      مع دخول العرب المسلمين في القرن السابع، بدأ بالانتشار في سوريا دين جديد هو الإسلام، و لغة جديدة نسبيا هي العربية، وحلت سلطة جديدة هي الخلافة العربية محل الإمبراطورية البيزنطية، وهذا يعني تغير كافة العوامل التي شكلت " الجماعة السريانية" و حلول أخرى محلها، و مع استمرار انتشار الإسلام و اللغة العربية، تقلصت الجماعة السريانية التي كانت تعد بالملايين، لتتحول مع مرور الزمن إلى طائفة دينية غير كبيرة، و فقد أحفادها كل ارتباط بها أو شعور بالانتماء إليه، وصار هؤلاء الأحفاد مسلمين عربا بحكم الدين و اللغة، لكن هذا لم يطور حالة قومية عربية، بحيث يشعر هؤلاء  "المتعربون" بقوة الانتماء إلى "جماعة عربية" متمايزة عما سواها في إطار الإسلام، فقد بقي الانتماء الأساسي هو الانتماء للجماعة الإسلامية، و في مرحلة لاحقة إلى "الطائفة الإسلامية" مع تعدد المذاهب و الطوائف في الإسلام.

    في الغرب الأوروبي  تطورت القومية بفعل عوامل شتى، لكن تطورها الأكبر جرى في عصر النهضة، لتصل في القرن التاسع عشر – قرن القوميات- إلى ذروة تطورها و هي مرحلة "القومية السياسية أو المسيسة" (nationalism) التي تجعل هدفها الأساسي هو إقامة "الدولة القومية"، و قد لعبت أربعة عوامل أساسية الدور الجوهري في ذلك، و هي:
1-  تطور الفكر السياسي و الفكر القومي، الذي يشكل حالة متقدمة لتطور الوعي القومي و الشعور القومي، و جاء ذلك في ظل حالة النهضة الفكرية و العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية الشاملة التي كانت تتم في الغرب الأوروبي.
2-  التحرر من هيمنة الكنيسة، و الذهنية الإيمانية الغيبية المرافقة لها، و علمنة المجتمع ، مما يعني فقدان "فكرة الانتماء إلى "الجماعة الكاثوليكية"، و يضاف إلى ذلك الصراعات و الانقسامات الدينية (كظهور الحركات البروتستانتية) التي شهدها العالم المسيحي الغربي، مما ضاعف حدة تمزق "الوحدة الكاثوليكية.
3-  صعود الطبقة البرجوازية التي كان من مصلحتها التركيز على "فكرة القومية" و السعي لبناء الدولة القومية لأن ذلك يخلصها من العقبات و العراقيل التي كان النظام الإقطاعي يضعها أمام حريتها في الاستثمار و التجارة من جهة.. و يضع القرار السياسي و الحكومي في يد الأريستوقراطية الإقطاعية حارما بقية فئات و طبقات الشعب من المشاركة فيه من جهة أخرى، هذا داخل الدولة، أما على المستوى الخارجي  فقد كانت كل برجوازية محلية تحتاج إلى الدولة القومية لتحميها من منافسة  البرجوازيات الأجنبية.
4-  عدم و جود لغة موحدة، فاللغة اللاتينية لم تتحول إلى لغة محكية، و بقيت لغة نخبوية على مدى القرون، أما على المستوى الشعبي فقد كان هناك العديد من اللهجات التي تختلط فيها اللاتينية بلغات ذات أصول محلية، ثم راحت اللاتينية تتراجع في مواقعها النخبوية مع التطور التدريجي للهجات المحلية إلى لغات عالية المستوى ، و قادرة على استيعاب العلوم و الفلسفات و الآداب العصرية، مما أدى في النهاية إلى فقدان اللاتينية لكافة أدوارها .. و تحولها إلى لغة مندثرة.

    أما العالم العربي الذي بدأت محاولته النهضوية أيضا في القرن التاسع عشر، فقد تأثر بـ "الفكر الغربي" عموما بما فيه الفكر القومي، وهكذا ظهر لدينا مفكرون و سياسيون  طرحوا سؤال القومية، و جعلوا "العروبة " هي الجواب عليه، فنشأت فكرة "القومية العربية" على أسس اللغة و التاريخ و الأرض و المصلحة..  و هذه حقيقة  عوامل واقعية موضوعية، و هكذا نشأت حركة فكرية سياسية تسعى لإحياء الحضارة العربية و توحيد الأقطار التي تنتشر فيها اللهجات العربية في إطار دولة قومية عربية عصرية.
 
  طبعا هذه الحركة فشلت فشلا تاما في تحقيق هذا الهدف لأسباب يطول البحث و الكلام فيها، و لكن مع ذلك نجحت إلى حد ما على صعيد آخر، فهي تمكنت من حلق حالة بالشعور الانتماء على مستوى واسع نسبيا، و ساهمت في  إحياء و عصرنة اللغة العربية و جعلها إلى حد ما لغة الثقافة و  النشر و الإعلام و التعليم، ولغة الكتابة الأساسية، كما ساهمت في خلق حالة ثقافية عربية مشتركة تتخطى الحدود السياسية، و حتى على المستوى الرسمي كونت بعض التقارب، و أنجزت كيانا سياسيا عربيا – رغم هشاشته – هو "جامعة الدول العربية"، و هنا يجب التنويه إلى أن المقصود بالحركة القومية العربية ليس هو هذا الحزب أو ذاك، أو هذه المجموعة من السياسيين أو تلك، فالحديث هنا يتم عن حالة حركية واسعة النطاق اشترك – و يشترك -  فيها عد كبير من الأدباء و المفكرين و السياسيين، و المؤسسات و التنظيمات و الأحزاب و سواها.

    هذه الحركة بخلاف الحركات القومية الأوروبية لم تتبنّ العلمانية، فالحركات القومية الأوروبية نشأت في أجواء كانت فيها العلمانية تتغلغل و تنتشر بقوة في عالم تحطمت فيه الوحدة الدينية و السلطة الكنسية، و كانت لدى هذه الحركات مقوماتها القومية الخاصة بمعزل عن الدين، كاللغة و الشعور القومي التقليدي مثلا، أما القومية العربية فقد طرحت في محيط شديد التدين، و و رجال الدين فيه واسعي النفوذ، و مستوى الفكر و الثقافة و العلم فيه جد متدن، و في المحصلة  العلمانية فيه غائبة فعليا، و الأساسان الأهم الذي قامت عليهما فكرة هذه القومية و هما اللغة و التاريخ كلاهما شديد و وثيق الارتباط بالدين الإسلامي، فبدون الإسلام لن يكون لدى الحركة القومية العربية فعليا أية لغة عربية، و كل ما هو موجود هو عدد كبير من اللهجات المحلية المتدنية المستوى لغويا و ثقافيا، و التي يصعب التفاهم بينها .. بل و يتعذر أحيانا، و اللغة العربية نفسها انتشرت و حـُفظت بفعل الإسلام ، و بقيت محتاجة إليه ليحميها من الانحلال في اللهجات المحلية، و كذلك هو حال "التاريخ العربي المشترك"، فهو تاريخ مرتبط ارتباطا جوهريا بالإسلام، و بإقصاء الإسلام و التاريخ الإسلامي، كانت الحركة القومية العربية ستجد نفسها بلا تاريخ، و أمامها عدد كبير من الأقاليم و الطوائف و الإثنيات التي سيبحث كل منه عن تاريخه الخاص، و لذا أبقت هذه الحركة على ارتباطها بالإسلام و جعلته سندا لها- و بالأخص أن العدد الأكبر من دعاتها كانوا بحد ذاتهم مؤمنين مسلمين، لكن نجاحها على المستويين الشعوري و التواصلي في وطأة عجزها عن تحقيق أي نجاح حقيقي على باقي المستويات ، و أهمها   المستويات السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، لم يسمح لهذا النجاح بأن يتجذر، و بقي الشعور القومي منازعا من قبل المشاعر الدينية و الإقليمية و الطائفية و القبلية، و اللغة العربية الفصحى نفسها من تعاني من تدني المستوى الثقافي و العلمي العام، و من منافسة دعاة و أنصار العاميات.

   في المحصلة فشل المشروع العربي، و لم يحقق الدولة َ العربية الموحدة العصرية، و "القوميةُ العربية" المرتبطة به هي في حقيقتها "حركة إيديولوجية" أكثر منها "حقيقة موضوعية"، فالمنطقة الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي حتى على مستوى المتكلمين بالعاميات العربية.. تفتقد حقيقة ً إلى الوحدة اللغوية و التاريخية و روح الانتماء المشترك الحقيقية، إنها منطقة تضم عددا كبيرا من المكونات ذات الأصول العرقية المختلفة، و لديها تباينات كبيرة في لهجاتها و ثقافاتها و انتماءاتها الطائفية و العشائرية و الإقليمية، مع أنه كان من الممكن فبما لو نجح "المشروع العربي التوحيدي التحديثي" أن يرتقي بها إلى مستوى الأمم العصرية،
لأنه تتوفر فيا على الصعيد البشري مقومات يمكن استخدامها لإنشاء قومية متماسكة راسخة.

    بعد ذلك الحديث عن القومية العربية و المشروع العربي فلننتقل إلى الحديث على المستوى السوري، و سوريا اليوم تعاني من كارثة كبرى ، و فيها يستغل كل من الدين و القومية بأبشع الصور، هذا في ساحات القتال، أما في ميادين السياسة و الثقافة و الفكر فهناك أيضا طروحات مختلفة على صعيد هوية الدولة، فثمة من يريدها إسلامية، و من يريدها سورية، ومن لا يزال يريدها عربية، و من يريدها تعددية!

    فمن نحن قوميا؟ و هل نحن عرب أم سوريون؟
   حقيقة يمكن القول أن القومية هي حالة إيمانية تشبه الدين، و هي مثله عقيدة و ثقافة و تقاليد، و كلاهما مرتبط بمعطيات موضوعية على أرض الواقع.. و يتغير تبعا لتغيرها! و اليوم أصبح صوت دعاة "القومية السورية" أكثر علوا، و كأن ثمة مسعى لاستبدال "المشروع العربي " بــ " مشروع سوري"! لكن هل المشروع السوري أكثر واقية و فرصا بالنجاح من نظيره العربي؟

  إن كلا المشروعين لديه معطياته الموضوعية التي يمكنه أن يعتمد عليها، و لكنها بحد ذاتها لا تستطيع قطعا أن تكوّن "هوية قومية" أو "أمة"! فكوننا نتكلم بـ "لهجة عربية" في لغتنا المحكية و نستخدم "الفصحى" في كتابتنا، و اشتراكنا في تاريخ عربي إسلامي عمره 13 قرنا تقريبا، يمكن أن يكون قابلا و غير قابل بنفس الوقت لتأسيس هوية قومية عربية أو عدم تأسيسها على حد سواء، فالمشروع السوري يمكنه بدوره أن يطرح تاريخه الخاص المنفصل عن العروبة، الذي يمتد بدوره لأكثر من 13 قرنا قبل الإسلام، و أن يستخدم خصوصيتنا في اللهجة و الثقافة و التكوين الاجتماعي ليكون منافسا نديا لنظيره العربي، لكن واقعيا كل العناصر الموضوعية التي يعتمد عليها كلا المشروعين هي وحدها غير كافية! و العقبات و المعيقات الموضوعية – الداخلية و الخارجية-  التي تعترض وحدة "الهلال الخصيب" لا تختلف كثير عن مثيلاتها التي تعترض وحدة "ما بين الخليج و المحيط"، و كذلك الأمر في ما يتعلق بالعقبات و المعيقات الذاتية، فكلا المشروعين يعترضه موضوعيا تدني المستويات الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية، و حالات الانتماء ما دون القومي، أي انتماء الملة و العشيرة ، الذي يتفوق في معظم الأحيان على انتماء الأمة ، كما أن الأخطار الخارجية هي هي، أما على المستوى الذاتي .. فأكثرية مثقفي و سياسي كلا المشروعين تنطلق من أرضية عاطفية حالمة و ساعية لاستعادة "ماض مشرق مجيد" ينهي حالة "الحاضر المعتم المزري"، و بالنتيجة كلا المشروعين يفتقدان إلى الرؤية الموضوعية العلمية الحديثة!

   لقد سألنا أعلاه " من نحن قوميا ؟"! و عندما نقول "نحن".. فعلينا أن نكون مدركين لمن المقصود بضمير "نحن".. و ما هي حدود شمولية هذه الكلمة بالنسبة لنا، و عندما نتكلم عن دولة و شعب و وطن، فعلينا أن نضع نصب أعينا انه ثمة جماعات بشرية عديدة تشاركنا الوطنية و لا تشاركنا القومية، لا العربية منها و لا السورية، كالكرد و الأرمن و الشركس و التركمان و  غيرهم، و لذا سيكون أي طرح قومي سوري تقليدي في سوريا تكرارا للتجربة العروبية، و سيبقي هذه الفئات الواسعة من شعب سوريا خارج دائرة الانتماء، و لن يحقق حالة الشعور بالمواطنة المتساوية اللازمة لبناء الدولة الحديثة.

    أما طرح "إسلامية " الدولة فهو أخطر من سابقيه بكثير، فهذه "الإسلامية" نفسها ليست محل إجماع بين المذاهب الإسلامية نفسها، ناهيك عن أنها ستخرج كل المسيحيين من عداد المواطنة و أهل البلد و تجعلهم في عداد "الرعايا الدخلاء".. إضافة إلى ما يعتور الطرح الإسلامي من إغراق في السلفية و غياب للعقلانية و الحداثة و خلط للدين و السياسة، و كل ما تقدم يعني استمرار حالة التخلف و الفرقة و التشرذم و الصراع الطائفي.

  ما نحتاجه في سورية هو دولة عـَلمانية ديموقراطية حديثة، عـَلمانية بكل معنى الكلمة، وفيها ينفصل كل من الدين والقومية والأيديولوجيا والعسكرة عن الدولة وعن السياسة! لتكون الدولة “دولة مواطنة” و”دولة شعب”، وليست “دولة قومية” أو “دولة زعيم”، وتكون الهوية الوطنية والانتماء للشعب فيها هما الأساس، وليس هوية القوم.. أو الملة أو الطائفة والانتماء لها، ويكون الإنسان فيها مواطنًا حقيقيًا، يتمتع بكل حقوق المواطنة، ويلتزم بكل واجباتها، وليس رعية في قطيع مولاه السلطان ومتسولًا لعطاياه المزعومة.

***

20\أيلول\2016
شهبا
*
هذا المقال منشور على مجلة "جيرون"
على الرباط التالي:
http://www.geroun.net/archives/66689
*



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق